مصطفى كامل السيد يكتب عن الدستور والحركة الوطنية في مصر
هذا المقال بقلم مصطفى كامل السيد، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
ارتبطت الحركة الوطنية في مصر، منذ زمن طويل، في نضالها ضد السيطرة الأجنبية والحكم المطلق، بالمطالبة بدستور يعكس تعطش الشعب المصرى للإستقلال وحكم يعبر عن تطلعه للكرامة والمساواة. وكان ذلك واضحا منذ بداية صعود هذه الحركة الوطنية في ستينيات القرن التاسع عشر. لم يكد الخديوى إسماعيل يسعد بإدخاله مجلسا نيابيا منتخبا هو مجلس شورى النواب في 1866 كما هو الحال في الأمم المتقدمة حسب رؤيته التحديثية، حتي سعى النواب المنتخبون إلى لائحة لهذا المجلس تضمن حقهم في مساءلة الحكومة، وهو مطلب إنضم إليه ضباط الجيش المصريون في أول إرهاصات الحركة العرابية في سنة 1879 التى رفعت قضية مسئولية النظارة –الوزارة- أمام مجلس شورى النواب لتكون في صدارة مطالبها في اللائحة الوطنية في أبريل 1879، ثم توجت هذه الحركة نضالها ضد كل من الحكم المطلق والسيطرة الأجنبية بوضعها دستورا في سنة 1882يؤكد على مبدأ مسئولية النظارة أو الوزارة أمام السلطة النيابية الممثلة للشعب.
ويعود هذا الارتباط الوثيق بين مطلبي الدستور الديمقراطى والاستقلال الوطني إلى إعتقاد قادة الحركة الوطنية الراسخ والذى أيدتهم فيه جموع الشعب المصرى بأن الصلابة في مكافحة السيطرة الأجنبية علي مصر لا تتحقق إلا إذا كان الذى يقود الكفاح ضد هذه السيطرة هم الممثلون الحقيقيون لهذا الشعب. وقد تأكد هذا الإعتقاد من خلال ممارسات كل من الحكام الطغاة وممثلي الاحتلال الأجنبي سواء من جانب المحتل الأجنبي أو من جانب السلطة الملكية. طبعا لم تستسلم الحركة الوطنية لهذا التلاعب بإصرارها على حكم دستورى صحيح يقيد السلطة الخاضعة لإرادة المحتل الأجنبي، ومن ثم كان شعار هذه الحركة تحت زعامة الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد هو الجلاء والدستور، وكان أول إنجازات هذه الحركة بعد حصول مصر على الإستقلال الذاتي بموجب تصريح 28 فبراير 1922 هو وضع دستور شارك في صياغته كافة ممثلي الأمة من مسلمين وأقباط ويهود وأرمن، وحظي بموافقة كافة القوى السياسية، ولما حاول الملك وضع دستور آخر يلبي نزعته المستبدة هو دستور 1930، قاطعت الحركة الوطنية هذا الدستور حتي أسقطته فى سنة 1935 واستمر دستور 1923 نافذا حتي ألغاه مجلس قيادة الثورة في 16 يناير 1953 بعد حركة الجيش في 23 يوليو 1952 التى أنهت عمليا الحقبة الليبرالية في تاريخ مصر.
***
وعلى الرغم من أن الدساتير التى تعاقبت علي مصر بعد سنة 1952 أولت إهتماما كبيرا بمبادىء المساواة بين المواطنين، وإعترفت بحق النساء في الإنتخاب والترشح وأقرت الحقوق الإقتصادية والإجتماعية إلا أنها اتسمت سواء فى دستور جمهورية مصر في سنة 1956 أو الدستور المسمي بالدائم لجمهورية مصر العربية في سنة 1971 بتركيز السلطات في يد رئيس الدولة بإقامة نظام رئاسي يخلو من فصل السلطات الذى يتسم به النظام الرئاسي في الدول التي تعتبر نموذجها الأصيل مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ولم يكن تركيز السلطة هذا عقبة أمام أى تطور ديمقراطي فحسب بل كان سببا لعدم كفاءة أداء النظام الحكومي ذاته. وهو ما أكده تقرير لخبير ألماني دعاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتقديم رؤيته حول إصلاح النظام الإدارى في مصر، ولما كان أول مقترحات هذا الخبير هو الحد من تركز سلطات الدولة في يد رئيس الجمهورية، فقد إنتهي أمر هذا التقرير إلى دفنه في أحد أدراج الزعيم الراحل وفق رواية سمعتها من المرحوم الدكتور إبراهيم سعد الدين والذى كان وثيق الصلة بجهود إصلاح جهاز الدولة طيلة خمسينيات وستينيات القرن العشرين. وقد ظلت القضية الدستورية شاغلا مهما للحركة الوطنية في ظل حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وإنصب الإعتراض على المادة 76 الخاصة بمدة بقاء رئيس الجمهورية والتى أطلقها تعديل دستورى في سنة 1979 بجعلها مددا بدلا من مدتين، والمادة 77 التى قصرت الترشح لمنصب رئيس الجمهورية علي شخص واحد. ولذلك استمرت قضية الدستور موضع إهتمام القوى السياسية على نحو ما هو معروف سواء في ظل مبارك في سنواته الأخيرة أو المجلس الأعلي للقوات المسلحة أو أثناء حكم مرسي الذى تجرأ بإصدار إعلان دستورى جعله فوق الدستور وكان واحدا من أسباب الثورة عليه وعلي حكم الإخوان المسلمين.
***
ولذلك لم يكن من المدهش أن تتطلع القوى السياسية في مصر بعد ثورة يناير إلى وضع دستور جديد يضع حدا لتركيز السلطات في يد رئيس الجمهورية، ويمكن القول أن دستور 2012 الذى وضعته جمعية تأسيسية هيمن عليها الإخوان المسلمون كان أقرب إلى النظام البرلماني، أما دستور 2014 الذى و ضعته لجنة الخمسين فقد أعاد التأكيد علي سلطات رئيس الجمهورية؛ فهو صاحب الكلمة الأولي في تسمية رئيس الوزراء بعد إنتخاب مجلس النواب، وله أن يعفيه. وهو غير مسئول أمام مجلس النواب الذى لا يطرح الثقة فيه إلا في الأحوال الإستثنائية التى يتهم فيها بانتهاك أحكام الدستور أو الخيانة العظمي أو فقد شرعيته بخروج جماهير المواطنين عليه، وهو القائد الأعلي للقوات المسلحة، وهو يقترح القوانين ويصدرها ويمكنه الإعتراض عليها، وهو يعفى من العقوبة أو يخففها، ويعين كبار الموظفين العسكريين والمدنيين، ويشارك الحكومة في وضع السياسات العامة. كما أنه يمثل الدولة في علاقاتها الخارجية، وهو يعلن حالة الطوارىء، ويتخذ تدابير تقتضيها الضرورة عندما تثور الحاجة لذلك، ويصدر مراسيم بقوانين في غياب مجلس النواب. وقد أسقط دستور 2014 ماكان دستور 2012 نص عليه من ضرورة أن تقتصر السلطة المباشرة لرئيس الجمهورية علي مسائل الدفاع والأمن والسياسة الخارجية، وأن يمارس سلطته فيما عدا ذلك من مسائل من خلال الحكومة (المادة 141)، وكان ذلك تحت إلحاح قادة حركة تمرد في لجنة الخمسين.
***
هذه سلطات واسعة يمارسها رئيس الجمهورية في ظل دستور 2014، ولا يمكن التحجج بأن رئيس الجمهورية لايمكن له أن ينفذ برنامجه في ظل هذه النصوص، فهو يشارك مع الحكومة في وضع السياسات العامة ويشرف علي تنفيذها، وهو أول من يقترح الحكومة على مجلس النواب، وليس من المتصور أن يقترح حكومة تناصبه العداء، أو بها وزراء لا يتوقع أن يتعاونوا معه، وبإمكانه أن يطلب من مجلس النواب إعفاء هذه الحكومة. ولكن الجديد هنا أن دستور 2014 ينقل مصر من الحكم الفردى الذى يتحكم فيه فرد واحد في مصائر الشعب إلى حكم يتشاور فيه رئيس الجمهورية في الشئون الداخلية خصوصا مع رئيس الحكومة الذى يتمتع بالأغلبية البرلمانية في مجلس النواب. وهذه النقلة هى مهمة لرئيس الجمهورية فضلا عن أهميتها لسائر المواطنين. وذلك للأسباب التالية:
أولا: أنه مع تركيز سلطات كثيرة في يد رئيس الجمهورية فإنه لا يستطيع ببساطة ممارسة كل هذه السلطات، وهو ما يؤدى إلى التأخير في إتخاذ القرارات وإصابة الجهاز الإداري بالشلل. وأمامنا مثل محدد على ذلك. منح تعديل قانون الجامعات في سنة 2014 لرئيس الجمهورية سلطة تعيين رؤساء الجامعات بدلا من إنتخابهم، وهو أمر كان معمولا به من قبل، ولكن منحه كذلك سلطة تعيين عمداء الكليات الجامعية، وهو مالم يسع إليه أى من رؤساء الجمهورية السابقين، وترتب علي ذلك أن جامعات عديدة بقيت بدون رئيس شهورا عديدة واستغرق الأمر أيضا شهورا طوال قبل أن يستقر رئيس الجمهورية على إختيار عمداء لأكثر من مائة كلية رغم مرور شهور طويلة على بدء العام الجامعي. وتخيلوا الشلل الذى يصيب الجامعات والكليات عندما تظل فترات طويلة تحت إدارة مؤقتة.
وثانيا: أنه ما خاب من إستشار. انفرد السيد رئيس الجمهورية باتخاذ قرارات مهمة ومصيرية دون استشارة مجلس الوزراء ودون مراعاة لأوضاع ميزانية الدولة وأولوياتها. وفي مقدمة هذه القرارات قصة العاصمة الجديدة والتى هى إنتهاك صريح لنص المادة 222 بأن القاهرة هي عاصمة جمهورية مصر العربية. ونتيجة هذا القرار المنفرد والذى لم يأخذ في الإعتبار العجز الكبير في موازنة الدولة ووجود أولويات أخرى مثل تردى التعليم العام وعدم كفاية الفصول والمدارس لإستيعاب الأعداد الهائلة من الطلبة نتيجة إرتفاع معدل الزيادة السكانية وتدهور أوضاع الصحة العامة وقلة مخصصات الموازنة العامة الموجهة لها وسوء حالة القطارات. ولذلك فإن التشاور مع مجلس الوزراء بالنسبة لما يود الرئيس طرحه من مشروعات يمكن أن يسهم في ترشيد مثل هذه الأفكار، وإكسابها قدرا من الواقعية والتكيف مع إمكانيات الحكومة، ولذلك فقد تعرف مصيرا أفضل من مشروع العاصمة الجديدة الذى تردد بشأنه طويلا دون أن يلقي إستجابة محددة من الشركات الدولية أو المحلية التى كانت قد بادرت بإعلان اهتمامه بهذا المشروع.
ثالثا: الإلتزام بأحكام الدستور يكسب نظام الرئيس السيسى قدرا أكبر من المصداقية في مواجهة الرأى العام العالمي الذى مازال ينظر لما جرى في مصر بعد 30 يونيو 2013 على أنه إنقلاب عسكرى، ويبدد مخاوف قطاعات مهمة من النخبة السياسية في مصر التى أزعجها حديث الرئيس عن أن مصر تحتاج ثلاث عقود للإنتقال إلى أوضاع ديمقراطية، وأن الدستور طموح، وأنه قد جرى وضعه بحسن نية، وأن الدول لا تدار بحسن نية.
أتمني رغم الحملة الزاعقة المطالبة بتعديل الدستور إستجابة لما فهمه أصحابها من عبارة الرئيس أن يكون الوقت قد حان لتلبية تطلع الحركة الوطنية المصرية إلى إقامة نظام دستورى في مصر يتمتع بالمصداقية والشرعية.