عمرو حمزاوي يكتب.. "من هم الليبراليون في مصر؟"

نشر
10 دقائق قراءة
تقرير عمرو حمزاوي
Credit: Carsten Koall/Getty Images

هذا المقال بقلم  عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

محتوى إعلاني

س: هل حقا لدينا ليبراليون في مصر؟

محتوى إعلاني

ج: بعض الأحزاب "القديمة والجديدة" وبعض مكونات النخب الفكرية والثقافية تعين الليبرالية كهوية مجتمعية وسياسية، ويشترك معها في نفس التوجه الكثير من تجمعات النخب الاقتصادية والمالية وبعض الشخصيات العامة التي تتحرك إما في مساحات قريبة من منظومة الحكم في مصر أو في المجال العام. نحن، إذن، أمام أحزاب ونخب وتجمعات وشخصيات عامة تقدم تعريفا ذاتيا لهويتها يستند إلى الفكرة الليبرالية؛ وبهذا المعنى الأول لدينا ليبراليون.

غير أن التعريف الذاتي "نحن الليبراليون المصريون" يثير العديد من الإشكاليات. عادة ما ترتبط الهوية الليبرالية بالدفاع عن سيادة القانون والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات دورية وتنافسية ونزيهة، وبالانتصار لحقوق الإنسان والحريات بما فيها حق المواطن في المشاركة في إدارة الشأن العام واختيار من يمارس الحكم وصون حرية الاعتقاد والمعتقد وحرية التعبير عن الرأي؛ تماما مثلما ترتبط الليبرالية برفض التعاون مع منظومات حكم تتسلط على الشعوب وتمارس القمع المنهجي للمواطن وتتنصل من مقتضيات رقابة ومساءلة ومحاسبة الحكام قانونيا وشعبيا. للهوية الليبرالية أيضا خيط اقتصادي واجتماعي ناظم يتمثل في تبني المبادرة الفردية، واقتصاد السوق، وبعض الأفكار بشأن العدالة الاجتماعية المستندة إلى مواطنة المساواة الكاملة دون تمييز وتطبيق قاعدة تكافؤ الفرص وضمان حد أدنى من الحياة الكريمة بغض النظر عن التفاوت في حظوظ الثروة ومعدلات الدخول بين الناس.

أما في مصر، فيصطف العدد الأكبر من "الليبراليين" لتأييد السلطوية الجديدة منذ صيف 2013، ويسعون إلى التعاون معها نظير "الحماية والعوائد" مضحين بالديمقراطية، ويقدمون "خدمات قيمة" لتمكين السلطوية تارة بتبرير العصف بسيادة القانون وأخرى بقبول توظيف القمع والتهديد الدائم به للقضاء الفعلي على حق المواطن في الاختيار الحر وثالثة بالصمت على المظالم والانتهاكات المتراكمة ورابعة بقبول المشاركة في مجال عام تجرده السلطوية من العقل عبر فرض الرأي الواحد على وسائل الإعلام وتنزع عنه المضمون التنافسي عبر إماتة السياسة كنشاط حر تعددي والاحتفاظ الظاهري ببعض طقوسها كالانتخابات معلومة النتائج سلفا والتي يقابلها المواطن الناخب برد الفعل الوحيد الذي هي أهل له، العزوف. بهذا المعنى الثاني لدينا أحزاب ونخب فكرية وثقافية وتجمعات لنخب اقتصادية ومالية وشخصيات عامة تروج معا لادعاء هويتها "الليبرالية"، بينما هي باستثناء نفر قليل تتنصل من مبادئها وتنقلب على قيمها الديمقراطية.

س: لماذا لا ينزع توصيف الليبرالية عن هذه المجموعات، من جهة لكي يواجه تزييف وعي الناس بشأن مدعي ليبرالية انتهى بهم الحال إلى تأييد السلطوية وحكم الفرد والصمت على انتهاكات حقوق الإنسان أو تراجع دورهم إلى قبول المشاركة في مجال عام لا عقل به ولا تنافس؟

ج: هناك بالفعل توصيفات بديلة تستخدم للإشارة إليهم وتسعى لإبعادهم عن ادعاء الهوية الليبرالية والتدليل على انقلابهم على مبادئها وقيمها الديمقراطية؛ توصيفات بديلة تراوح بين العلمانية والدولاتية.

فالبعض ينظر إليهم كعلمانيين مصريين يسعون دوما إلى الفصل بين الدين والدولة، ويبحثون عن مجال عام وحياة سياسية خاليين من الحركات والتيارات الدينية التي يصنفونها كمصدر التهديد الأخطر للسلم المجتمعي وللحريات الشخصية، ولا يتورعون عن التحالف مع المؤسسة العسكرية ومع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية (المكون العسكري-الأمني) لإلغاء الإجراءات الديمقراطية بهدف القضاء على "الإسلاميين" الذين يمكنهم توظيف الدين من تسجيل انتصارات مستمرة في صناديق الاقتراع والمشاهد الانتخابية إن لم تتم "إدارتها" بدقة.

غير أن نقطة الضعف الرئيسية لاستخدام العلمانية كتوصيف بديل لمدعي الليبرالية تتعلق بالتناقضات الكثيرة التي يظهرونها فيما خص الفصل بين مكوني الدين والدولة، من حزب كحزب الوفد ينفي عن نفسه دائما "الاتهام" بالسعي إلى الفصل بين المكونين، إلى نخب فكرية وثقافية واقتصادية ومالية وشخصيات عامة تؤيد التوظيف الممنهج للدين في شئون الدولة من قبل السلطوية الجديدة والحاكم الفرد الذي يتصدر واجهتها ويدفعها إلى تبني أفكار كالخطاب الديني المعتدل والوسطية الدينية على نحو يعمق من تورط "الدولة" في "الدين" ويختزل الأخير إما إلى مادة للصراع الدائر اليوم بين الحاكم وبين جماعة الإخوان أو إلى أداة يحتكرها لإنتاج الشرعية. فالهوية العلمانية، وإن كانت علاقتها بالمبادئ والقيم الديمقراطية تحتمل التعارض وتعرف الكثير من الخبرات التاريخية لتطبيق سلطويات حاكمة للفصل بين الدين والدولة (الجمهورية التركية في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية)، إلا أن إقرارها كتوصيف بديل لمدعي الليبرالية في مصر الذين يتزعمون جوقة "الاعتدال الديني" المسنود سلطويا، ويعجزون أيضا عن الدفاع الصريح عن حرية الاعتقاد والمعتقد وعن حرية التعبير عن الرأي دون خوف من اتهامات التكفير الجاهزة دوما وعن حريات الناس الشخصية إزاء التدخلات السافرة للمؤسسات الدينية، يفتقد للمعنى والمضمون.

البعض الآخر ينظر إلى مدعي الليبرالية في مصر كدولاتيين في تحالف مستمر مع المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والنخب البيروقراطية التي تدير شؤون الحكم سلطويا، مبرراته الظاهرية هي الدفاع عن الدولة الوطنية والحفاظ على تماسك مؤسساتها وأجهزتها وتحفيزها على القيام بدور قاطرة التقدم والتحديث والتنمية في المجتمع، ومبرراته الواقعية هي دفاع مدعي الليبرالية عن امتيازاتهم الاقتصادية والاجتماعية كممثلين للطبقات الوسطى والطبقات ميسورة الحال وحفاظهم على نفوذهم في دوائر الحكم والسلطة وتحفيزهم لمؤسسات وأجهزة الدولة لقمع الطبقات محدودة الدخل والفقيرة والمهمشة للحيلولة بينهم وبين انتزاع نصيب عادل من ثروات وموارد المجتمع، تحفيز إلى حد تبرير القتل والظلم والانتهاك. لا رؤى ولا برامج ولا مقترحات سياسة عامة لدى الدولاتيين تبدأ بعيدا عن التحالف مع السلطوية. لا رغبة حقيقية لديهم في دفع بلادنا باتجاه مسار تحول ديمقراطي وتداول سلمي للسلطة، خوفا من انقضاض "الفقراء" و"المهمشين" على المجال العام والحياة السياسية عبر نجاحات انتخابية قد تجعل منهم "الحكام الجدد" وقد تسمح لهم بنزع امتيازات متوسطي وميسوري الحال. لا اهتمام جاد من جانبهم بصياغة إطار عادل ومستقل لسيادة القانون، له أن يحمي الحقوق المدنية والحريات الشخصية ويضمن الملكية الخاصة ويشجع نمو القطاع الخاص، خوفا من تداعيات "الكل أمام القانون سواء" و"تكافؤ الفرص" و"مناهضة التمييز" وجميعها قواعد تنتجها النظم القانونية المستقلة لجهة تمكين الفقراء والمهمشين من انتزاع نصيب عادل من الثروة المجتمعية، وإيغالا في اعتماد الطبقات الوسطى وميسورة الحال على السلطوية في ضمان امتيازاتها من خلال ثنائية تأييد الحاكم الفرد ودعم المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وبيروقراطية الدولة نظير الحماية والعوائد.

على عكس نقاط الضعف التي ترد على استخدام توصيف "العلمانيين" لمقاربة مدعي الليبرالية في مصر، يكتسب توصيف "الدولاتيين" الكثير من المصداقية لاستناده إلى تفاصيل الأدوار التي لعبتها أحزاب قديمة وجديدة ونخب فكرية وثقافية واقتصادية ومالية وشخصيات عامة منذ 2011، وإلى حقائق تحالفاتها مع السلطوية التي لم تبتعد إلا قليلا عن الحكم بين 2011 و2012 وسرعان ما عادت إلى احتكاره وتجديد دمائها بين 2013 و2015، وإلى خوف مدعي الليبرالية المرضي من انقضاض الفقراء والمهمشين على المجال العام والحياة السياسية على نحو رتب تأييدهم للخروج على الديمقراطية في صيف 2013 وقبول نزع العقل عن المجال العام وإماتة السياسة وقاد بعضهم من قبل إلى المطالبات العبثية بإقرار "مبادئ فوق دستورية" وبالتمييز تصويتيا بين الناخب "الواعي" (ناخب الطبقة الوسطى وما فوقها) والناخب "غير الواعي" (ناخب الطبقات الفقيرة والمهمشة). يكتسب توصيف "الدولاتيين" مصداقيته أيضا ارتكازا إلى الملامح الأساسية للتطور التاريخي للأحزاب والنخب الليبرالية في مصر، وبها رفض كاسح لمعارضة السلطويات المتعاقبة على الحكم وشك دائم في المجتمع الذي يلصق به زيفا العجز عن صناعة التقدم والتحديث والدفاع عن الحقوق والحريات وبناء الديمقراطية وفرض "الوصائية" السلطوية والحاكم الفرد الذي يتصدر واجهتها على المواطن الذي لا يسمح له أبدا بالاختيار الحر ويشوه هو وأقرانه إلى قطيع يوجه أو يعاقب.

وبعد إقرار استخدام توصيف "الدولاتيين" لمقاربة مدعي الليبرالية في مصر، يأتي تحرير الفكرة الليبرالية من العبث الذي ألحقته بها هذه الأحزاب والنخب والشخصيات العامة ثم تعيين مساحات لحركة وفعل النفر القليل المتمسك بالمبادئ والقيم الديمقراطية لليبرالية والمقاوم سلميا للسلطوية الجديدة. المزيد عن هذا قريبا.

نشر
محتوى إعلاني