فهمي هويدي يكتب عن "المؤامرة التي تدبر" من الخارج لمصر
هذا المقال بقلم فهمي هويدي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
بدلا من تسويق فكرة المؤامرة الدولية الغامضة على مصر ليتنا نطالع وجوهنا فى المرآة ونتثبت من صلابة الأرض التى نقف عليها.
(1)
يوم الجمعة الماضى ١٣/١١ وجدت الإشارة إلى «المؤامرة» متواترة فى أغلب التعليقات والمقالات التى نشرتها ٧ صحف مصرية. وحينما حاولت إحصاء عدد المرات التى ذكرت فيها الكلمة، فإننى توقفت عند الرقم ٤٧ بعدما مللت من التدقيق فى الأعمدة المنشورة. كانت الإشارة إلى المؤامرة الدولية عامة فى بعض الكتابات التى علقت على قرار بعض الدول وقف رحلاتها إلى شرم الشيخ، بعد حادث سقوط أو إسقاط طائرة السياح الروس، فإن كتابات أخرى خصت تنظيم الإخوان الدولى وبريطانيا بالاتهام. وغمزت فى القرار الروسى. إلا أننى توقفت أمام ما نشرته جريدة «الأهرام» يومذاك على صفحتين كاملتين إحداهما خصصت لمقالة رئيس التحرير التى وسعت من نطاق المؤامرة وكان عنوانها «المشروع الوطنى فى خطر». وكان التركيز فيها على الجهود التى تبذل لتنفيذ المؤامرة التى تستهدف إسقاط الدولة، سواء من جانب أطراف داخلية وصفت بأنها «خائبة سواء كانت عميلة أو جاهلة»، أو من جانب أطراف أخرى إقليمية أو دولية لم يسمها الكاتب. الصفحة الثانية خصصت لتأصيل المؤامرة وشرح أبعادها التاريخية والأطراف التى تدبرها فى الوقت الراهن. وتم ذلك من خلال حوار أجرى مع أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس الدكتور جمال شقرة. وأهم ما قاله إن مصر تتعرض لعدوان ثلاثى جديد يعيد مشهد العدوان الثلاثى الذى تعرضت له عام ١٩٥٦، أثناء الحقبة الناصرية، وشاركت فيه إلى جانب إسرائيل كل من فرنسا وانجلترا. أما أركان العدوان الثلاثى الجديد فى رأى أستاذ التاريخ فهى الولايات المتحدة وتركيا وقطر. وحين سئل عن الفرق بين العدوانين، قال: فى عام ٥٦ استخدم العدوان المباشر العسكرى والاقتصادى. أما العدوان الجديد فهو يتمثل فى حروب الجيلين الرابع والخامس، التى تقوم الجماعات الإرهابية بدور الوكيل فيها. إذ هى تسعى إلى تفكيك وتفجير البنية الاجتماعية لكى يتم تفتيت الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة.
(2)
كنت مستعدا لفهم تواتر فكرة المؤامرة الدولية التى لا نعرف لها محتوى أو مضمونا فى تعليقات بعض الصحفيين والكتاب، ولكن التأصيل الذى قدمه أستاذ التاريخ كان مدهشا حقا، وذلك أن الرجل قارن بين تجربة جمال عبدالناصر فى الخمسينيات والموقف الذى يواجهه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الوقت الراهن. وهو فى ذلك تجاهل الفروق الكبيرة بين عالم الخمسينيات وبين زمننا الراهن. وبين سياسات عبدالناصر ومعاركه التى خاضها وبين السياسات المتبعة فى مصر الآن. إذ لم يذكر أستاذ التاريخ أن عبدالناصر تحدى تلك الدول وكانت له معاركه ضد الولايات المتحدة التى رفضت تمويل مشروع السد العالى. كما أثار حقد البريطانيين والفرنسيين بتأميمه للقناة ومساندته لحركات التحرر الوطنى آنذاك. وأهم من هذا وذاك أن عداءه كان لإسرائيل واحتلالها لفلسطين كان معلنا، إلى جانب أنه فى كل ذلك كان يراهن على التعارض القائم بين قطبى النظام العالمى آنذاك، الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة. الشاهد أن عدوان ٥٦ أريد به تأديب عبدالناصر وتقليم أظافره وإجهاض مشروعه الوطنى والتحررى. وهذه العوامل كلها لا وجود لها فى الوقت الحاضر، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إنه إذا كان هناك ألف سبب يدعو الدول الغربية الكبرى وإسرائيل للاشتباك مع عبدالناصر وهزيمته. فليس هناك سبب واحد يدعو تلك الدول بما فيها إسرائيل للتآمر ومحاولة إسقاط النظام القائم فى مصر الآن. بل إن مصر المسالمة والمهادنة للجميع «اشتباكها مع تركيا وقطر إعلامى وسياسى» لم تشكل عقبة عوقت أو عطلت شيئا من الممارسات الغربية أو الإسرائيلية فى المنطقة. أما حكاية انحياز بعض دول الغرب للإخوان فهو ادعاء يصعب أخذه على محمل الجد. لأن تلك الدول لها أنظمة ديمقراطية مفتوحة الأبواب للعمل السياسى لأى طرف، وهو ما يستفيد منه الأكراد فى ألمانيا ودول شمال أوروبا كما تستفيد منه جماعة مجاهدى خلق الإيرانية المتمركزة فى فرنسا. أما الانتقادات التى توجهها بعض المنظمات الحقوقية الدولية لسجل مصر فى حقوق الإنسان فهى لا تعد مؤامرة وإنما هى تعبير عن التزام تلك المنظمات بمبادئها والقضايا التى تدافع عنها. وفى كل الأحوال فلهذه الدول مصالح وسياسات تدافع عنها وربما لها أيضا تحيزات معلنة «لإسرائيل مثلا» وهو ما لا يعجبنا بطبيعة الحال، لكنه مما لا ينطبق عليه وصف المؤامرة إلا فى وسائل الإعلام فى بلادنا.
حديث المؤامرة ليس جديدا، وهو شائع فى المجتمعات غير الديمقراطية. وقد وثقه جورج أورويل فى روايته ١٩٨٤. التى تصور فيها بريطانيا بعد اجتياح النازيين لها «أطلق عليها فى الرواية اسم «أوشينيا»» وخضعت لحكم «الأخ الكبير» الذى لم يجد وسيلة لتشديد قبضته وإحكام سيطرته على المجتمع إلا بإيهامهم بأن البلاد تخوض حربا شرسة ضد دولة لم يسمع بها أحد هى «أوراسيا»، وضد عدو شيطانى كان رفيقا يوما ما، لكنه خان وانضم إلى أعداء الدولة اسمه إيمانويل جولدشتاين. وظل محور السياسة الداخلية طول الوقت هو التخويف من خطر مؤامرة أوراسيا ومخططات «عدو الشعب» جولدشتاين. وبذريعة إحباط المؤامرة والتصدى للعدو المتربص مارس نظام الأخ الكبير كل صور القمع ضد المعارضين، وصرف انتباه الناس طول الوقت عن فشله فى الخارج وحياتهم البائسة فى الداخل.
(3)
أيا كان تكييف الإجراءات والسياسات التى تتبعها الدول الأجنبية إزاء مصر، وبعضها يصدر عن دول صديقة ولا تفهم دوافعه الحقيقية «مثل إلغاء موسكو لرحلات الطيران إلى مصر» فإن الاكتفاء بالتنديد بالمؤامرة الدولية لا يحل ولا يربط. إذ غاية ما يسفر عنه أنه يروج للشعور بالخطر الآتى من الخارج، ويحاول إقناع الرأى العام بأن «الحق على الطليان» كما يقال. وفضلا عن أنه يعد تشخيصا غير دقيق فإن أثره لا يتجاوز حدود تعبئة الرأى العام ضد قوى الخارج «المتآمرة». وحين يعلق الأمر على مسئولية ودور المؤامرة الخارجية فإن ذلك يوجه إلى الداخل رسالة خلاصتها أن الأمر خارج عن إرادته ولا يد له فيه. وهذه أسوأ رسالة يتلقاها شعب يخوض معركة.
لا نحتاج إلى محلل استراتيجى ولا إلى خبير عسكرى، لكى يقول لنا إن تقوية الجبهة الداخلية يعزز صمودها ويجعلها قادرة على تحدى أى تهديدات أو مؤامرات خارجية، وأنك قبل أن تصوب سلاحك نحو عدو يتهددك ينبغى أن تتثبت من صلابة الأرض التى تقف عليها.
هذه الخلفية تستدعى السؤال التالى: «هل الجبهة الداخلية فى مصر تتمتع بالتماسك والصلابة التى تمكنها من الصمود أمام التحديات والضغوط التى تحيط بها من كل صوب»؟ إننا حين نطالع نشرة أخبار مصر الراهنة فسوف نطالع فيها العناوين التالية: قطاع السياحة مهدد بالشلل بعد حادثة الطائرة الروسية والتداعيات التى ترتبت عليها ـ الجنيه المصرى يترنح أمام الدولار ـ مساع مصرية للاقتراض من البنك الدولى ـ القوات المسلحة تستدعى للمساهمة فى توفير السلع للمستهلكين بأسعار مناسبة ـ الأمطار والسيول تغرق الإسكندرية والبحيرة وبعض القرى ـ تعثر مباحثات سد النهضة الإثيوبى لتجنب مخاطره المحتملة على مصر ـ دخل قناة السويس يتراجع بسبب بطء حركة التجارة الدولية ـ انفراط عقد تحالف ٣٠ يونيو ـ عزوف المواطنين عن المشاركة الفعالة فى التصويت فى الانتخابات التشريعية ـ شكوى المنظمات الحقوقية من استمرار انتهاكات حقوق الإنسان فى السجون وأقسام الشرطة ـ حملة واسعة للكشف عن ضحايا الاختفاء القسرى ـ وجود أكثر من ٤٠ ألفا من سجناء الرأى «٤٠ ألفا فى قول آخر» فى السجون إضافة إلى أكثر من ٤٠٠ محكوم عليهم بالإعدام ـ تراجع المساعدات الاقتصادية المتوقعة من بعض الدول الخليجية بسبب انخفاض أسعار البترول ـ استمرار تراجع احتياطى مصر من النقد الأجنبى حتى وصل إلى ١٦.٣٣٤ مليار دولار، فى حين كانت قيمته ٣٦ مليار دولار قبل ثورة يناير ٢٠١١ ـ استمرار العمليات الإرهابية فى سيناء وإلقاء القبض على بعض الخلايا التى اتهمت بالإرهاب فى أنحاء مختلفة من البلاد.. إلخ.
لن أختلف مع من يقول بأنه فى مقابل ذلك الجزء الفارغ من الكوب هناك جزء آخر ملآن لا ينبغى أن نتجاهله. منها اكتشاف بئر الغاز الجديدة وشق تفريعة قناة السويس وانضمام مصر إلى عضوية مجلس الأمن.. إلخ. مع ذلك فأيا كان حجم الجزء الملآن، فإن عناوين الشق الفارغ ترسم صورة غير مطمئنة للواقع المصرى، على نحو يثير تساؤلات قلقة حول حصاناته وعافيته، ومن ثم قدرته على مواجهة التحديات التى تحيط به.
(4)
أدرى أن الموضوع كبير وزواياه متعددة، لكننى أرجو ألا نختلف على أن الاصطفاف الوطنى أصبح واجب الوقت. وأنه إذا جاز لنا أن نقبل أو نحتمل انفراطا أو مشاحنات وتجاذبات خلال السنتين الماضيتين. فإننا ينبغى أن نعيد النظر فى كل ذلك الآن. سواء كنا بصدد مؤامرات أو تحديات فإن انقسام المجتمع والإحباط المخيم على أرجائه يفقد مصر قدرتها على مواجهة ما يلوح فى الأفق من تحديات. وإذ أتصور أن ذلك الوضع يتطلب مناقشة موسعة، كما أننى أفهم أن استعادة المجتمع للياقته تتطلب وقتا طويلا، إلا أننى أزعم أن الانفراج السياسى بمعنى إطلاق الحريات العامة وإلغاء القوانين المقيدة لها والإفراج عن السجناء السياسيين يمثل مدخلا أساسيا يفتح أبواب الأمل فى المستقبل ويعيد الثقة التى اهتزت لدى كثيرين فى تصويب المسار. ولا يقولن أحد إن الانتخابات البرلمانية الجارية توفر ذلك الأمل لأننى أزعم العكس تماما. فإذا كانت الأجهزة الأمنية قد تدخلت فى ترتيب أمر القوائم والمرشحين، وإذا كان الإجماع منعقدا على أن المجلس القادم سيكون بلا معارضة، فإن برلمانا هذه صورته يصبح عبئا على الديمقراطية وسببا آخر لليأس والإحباط.
ما لم يتم الانفراج السياسى فإن أزمة مصر سوف تستمر ولن يكون بمقدورنا أن نواصل الحديث عن مؤامرة تدبر من الخارج لأننا سنباشر المهمة بأنفسنا.