أحمد عبد ربه يكتب عن الفرق بين فترتي حكم مبارك والسيسي.. النظام الحالي مازال في سنة ثانية سلطوية
هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
لكل مواطن محيطان للتفاعل، محيطه الخاص حيث بيته وعمله وأسرته وأقاربه وجيرانه وأصدقاءه وأملاكه، ومحيطه العام حيث المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العامة.. إلخ. صحيح أن الفصل الجامد بين المحيطين صعب لأن المواطن بمجرد خروجه من بيته وركوبه وسائل المواصلات والطرق العامة فهو قد خرج من المحيط الخاص إلى العام، لكن تظل تفاعلات المواطن العادي في معظمها منصبة على المحيط الخاص والتعامل مع المحيط العام بالحد الأدنى من التفاعل إلى أن يقرر واعيا أن يوجه نصيب من طاقته وجهده وتركيزه إلى المحيط العام بكل تفاعلاته فهنا تكون مرحلة التسييس.
"تسييس" المواطنين له درجات مختلفة بحسب درجة مشاركته السياسية؛ بدءًا من قراءة الأخبار العامة والتفاعل معها بالنقاشات أو التدوينات مرورا بالمشاركة في الانتخابات العامة أو المحلية وصولا إلى عضوية الأحزاب والنقابات بل والترشح للمناصب العامة، وفي كل الأحوال فإن هذا الانتقال من المحيط الخاص للمحيط العام يحتاج إلى قدر من الوعى والقدرة على دفع بعض الأثمان وخصوصا لو كان هذا الانتقال من العام إلى الخاص يتم من خلال اتخاذ مواقف معارضة للسلطات القائمة عن طريق العمل السياسي أو الحقوقي أو من خلال الدمج بينهما.
***
قبل عشرة أعوام مثلا كان الشأن العام بالنسبة لى رفاهية تامة، كنت أدرس بالخارج وأتعامل مع الشأن العام كأفلام السينما، ترى أبطال السلطة والمعارضة وتتعامل معهم كنجوم، تكره البعض وتحب البعض الآخر ولكن تظل مشدودا لتحركاتهم وتصريحاتهم. كنت أرى سطوة الحزب الوطنى على الحياة السياسية وأشعر بارتباك شديد تجاه نجومه بين الإعجاب بسلطتهم وشهرتهم وسطوتهم وبين إنكار سياساتهم وانحيازاتهم، كنت أنبهر بمقالات إبراهيم عيسي وفهمي هويدي وبلال فضل وتدوينات وائل عباس وعلاء عبد الفتاح وتحركات البرادعي وأحمد ماهر و٦ ابريل و كفاية وعمال المحلة ولكن كنت أتساءل هل يمكن لمعارض في ظل نظام سلطوي أن يحقق ما هو أبعد من "الضوضاء"؟
كانت ٢٠١٠ نقطة تحول لى، فالمساحة بين العام والخاص تلاشت تدريجيا، انتخابات مزورة بالكامل، رئيس انفصل عن الواقع تماما، حزب فقد بوصلته ووحد كل أعدائه ضده، تجاوزات الداخلية تخطت كل الحدود مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعى والمدونات التي جعلت ما يحدث في العام في متناول يدك في مجالك الخاص. تستطيع أن تعلق وتكتب وتتفاعل بتكلفة قليلة نسبيا بعيدا عن السلطة وبطشها، ثم كانت الثورة والتى أنهت تماما أي مساحة بين الخاص والعام وفتحت آفاقا غير محدودة ولا مسبوقة لحرية الرأي والفكر والتعبير والتنظيم.
***
الآن وبعد تراجع الثورة وهزيمة القوى السياسية التى عبرت عنها بلا أي استثناء، فإن السلطة المنتصرة قد قررت وبشكل واع زيادة مساحة البطش والعقاب لأي شخص أو حزب أو مجموعة تعتقد أنه يوما ما تحداها. حسنا، هذا سلوك سلطوى تقليدي وليس فيه أي جديد، لكن المختلف هذه المرة أنه نتيجة لسوء تقدير وقلة كفاءة وعدم نضج السلطويين فقد قرروا أن يفعلوا ذلك بدون أي حسابات أو سقف وبمنتهى العشوائية والهواية، فماذا كانت النتيجة ؟
كانت النتيجة ببساطة أن السلطة جعلت أثمان السكوت والكلام متساوية، الانكفاء علي الشأن الخاص والانشغال بالشأن العام متساويين فى الثمن، لأنه لم يعد هناك مصريا تقريبا إلا وفى محيطه الخاص شخصا يعرفه قد تم إيذاءه من قِبَل السلطة بدرجات تفاوتت بين الحبس، الاعتداء والتعذيب، السجن والاعتقال، إصدار أحكام الإعدام، أو الوفاة في السجون.
إذا قرر شخص ما أن يخشى المشاركة العامة أو يتجاهلها لأنه مازال "سائبا" بينما هناك مربوطون يتعرضون للقمع، فقرر أن يأثر السلامة، فإنه مع اتساع نطاق القمع والبطش سيتعرض محيطه الخاص للانتهاك آجلا أو عاجلا ووقتها سيكون من المستحيل السكوت أو الطناش وخصوصا إذا اتسعت الدائرة بحيث شملت أكثر من شخص في دائرته الخاصة. هنا يكون السكوت مساويا للكلام، ويكون الخاص عاما والعام خاصا وتفقد السلطة قدرتها على الضبط والربط تدريجيا لأنها، وبكل المعايير الانتهازية، قد فشلت في وضع أثمان متباينة لتخيَر الناس بين الانكفاء على حياتهم الخاصة وأكل العيش وتربية أولادها بهدوء، وبين المشاركة والمعارضة والمقاومة بكل ما تشمله من انخراط تام فى الشأن العام.
حتى وقد شاركت فى الشأن العام منذ ٢٠١١ فقد ظلت هناك مساحة رفاهية فى أن أنسحب منه فى أي وقت، كان القرار سهلا وبسيطا قبل ذلك، تلقيت رسائل ومكالمات كثيرة من أقارب وأصدقاء وجيران يحذرونني من المضي قدما فى الانخراط فى الشأن العام وكنت أرى عبقرية السلطة في ذلك. فهي لا تقمعك بنفسها، ولكن تضغط على محيطك فيقوم الأخير بالمهمة التطوعية في دفعك بعيدا عن المحيط العام مدفوعا بخوفه عليك، وهكذا يكسب الجميع فى لعبة قليلة التكلفة، تسكتك السلطة دون أن تختصمك مباشرة، يكسب محيطك الخاص نقاط قوة فى لعبة تدجينك حتى يتساوي الجميع في السكوت على التجاوزات دون أن تشعرهم أنت بدورك العام المعارض مما يحرج سكوتهم أو تأييدهم للأوضاع الخاطئة، وتكسب أنت السلامة، فستظل تأكل عيشا وتربى أولادك ربما بأحلام أقل، لكن وما المشكلة؟ أليس هذا أفضل من أن تفقد حريتك أو يفقدوك هم كلية؟
***
الآن الوضع اختلف، فقدت السلطة غوايتها، كما فقدت قدرتها على الضبط وذكائها فى إسكات المعارضين، لماذا؟ لأنها لم تعد تجعل فى الانتقال من المحيط الخاص إلى المحيط العام أي رفاهية، فقد اختصمت محيطك الخاص بشكل جعل معركتك معها معركة شخصية / ثأرية لا معركة سياسية تسمح برفاهيات الأخذ والجذب، الحوار والتفاوض، الشدة واللين.
أنا الآن أتعامل مع السلطة على أنها ند شخصي قام بإيذاء أصدقاء وزملاء وجيران. حبست السلطة زميلي في الكلية عبدالله شحاتة أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة وأجبرته أن يقف أمام شاشات التلفاز ليعترف علي نفسه وعلى أخيه وقد ظهرت علامات الإرهاق الجسدى والنفسي عليه فى نشرة التاسعة. حكمت السلطة على أستاذي وأستاذ العلوم السياسية عماد شاهين بالإعدام فى أعنف حكم على أكاديمي مصرى خلال العقود الماضية مصحوبا بحملة إعلامية لتشويهه وإخافة أي شخص يتضامن معه، ثم رفضت السلطة علاج جارى عماد حسن أو نقله للمستشفى للعلاج حتى استجابت أخيرا بعد الوقت الضائع ليلقى عماد ربه فى المستشفي هيكلا عظميا بعد أن تمكن منه المرض اللعين دون رعاية من إدارة السجن، ثم تم حبس زميلي الباحث الأكاديمي الرصين هشام جعفر بتهم يعلم الجميع أنها غير صحيحة ومنع عنه بحسب زوجته ادخال الدواء والزيارة، ثم تم حبس زميلي وصديقي حسام بهجت وكاد أن يتحول إلى محاكمة عسكرية بتهم كانت كفيلة بتغييبه وراء القضبان لسنوات طويلة لولا التطور الدرامى غير المتوقع بإخراجه، ثم كان أخيرا الباحث والصديق إسماعيل الإسكندراني الذي تم توقيفه فى مطار الغردقة بتهم أقل ما يقال عنها أنها مضحكة ومثيرة للتعجب!!
هؤلاء أصدقاء وزملاء وأساتذة وجيران عملت مع بعضهم وعرفتهم عن قرب، بغض النظر عن اختلافي مع بعضهم سياسيا أو أيديولوجيا، فكيف لى أن أتصرف مستقبلا؟ كيف عساى أن أتحرك في محيطي الخاص متغاضيا عن كل هذه الانتهاكات؟ هؤلاء الأبرز ولكن هناك عشرات غيرهم أقل شهرة تركوا بلادهم مضطرين ومتخبطين في بلاد الغربة لا يعلمون كيفية تدبير أمرهم لثلاثة أشهر قادمة. كلهم أعرفهم بشكل شخصي نتحدث أو نتقابل من وقت لآخر ونتباكى على أحوال بلادنا الطاردة لكل كفاءة محتملة بحيث لم يتبقى على إدارة مفاصلها سوى مجموعة من عديمى الكفاءة وعديمى الرؤية اللهم إلا من استثناءات معدودة على الأصابع.
***
هذا واحد من أهم الفوارق بين نظام مبارك والنظام الحالى، الأول كان نظام تعددي سلطوي، لديه سقف ويعرف كيف ومتى يضرب والأهم متى يتوقف، أما النظام الحالي فمازال في سنة ثانية سلطوية يتصرف كالهواة وهو فى ذلك يضر الجميع بما فيهم نفسه. سيكون من العبث أن تحاول أن تقنعه أو تخاطب العقلاء بداخله، أو حتى تمد يدك له بالعون على اعتبار أن ذلك في صالح البلد، أقصى ما يمكنك فعله أن تكتب وتسجل عليه أخطائه لعل من يأتي بعده أن يتعلم.