2015.. عامٌ أثقل كاهل السوريين بما يتجاوز حدود التعب
دمشق، سوريا (CNN)-- "عيشها غير"؛ عبارةٌ ترددت كثيراً على ألسنة السوريين، وفي تدويناتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي من باب التندّر على صعوبة الأوضاع التي عاشوها خلال العام 2015.
فالعبارة التي كانت شعار حملةٍ إعلانيةٍ ضخمة مطلع العام الفائت، عن تقديم حسومات للمواطنين على السلع الاستهلاكية، وتذاكر الطيران، وغيرها؛ سرعان ما تحوّلت إلى نكتة تلخص مرارة المعاناة اليومية للسوريين في السنة الخامسة للحرب، من جرآء تطوّراتها الميدانية، وانعكاساتها الاقتصادية، والاجتماعية.
ففي الـ 2015 ارتفعت أسعار الديزل، والغاز، والكهرباء، وربطة الخبر، وطالت موجة الارتفاع كل متطلبّات الحياة الأساسية.
ضغوطات الحرب خلال العام الفائت، دفعت بآلاف السوريين للمخاطرة بحياتهم، وركوب البحر، قاصدين أوربا كلاجئين أو طالبي لجوء، في أكبر موجة نزوح عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وتصدرت صور تكدّسهم بالزوارق المطاطية، ملوَنين بستر النجاة البرتقالية، وسائل الإعلام العالمية التي رصدت غرقَ العشرات منهم، بينهم أطفالٌ ونساء، وتزاحمَ الناجين على حدود الدول الأوربية، منهكين حالمين بملاذٍ آمن بعد رحلة سفرٍ شاقّة، ذاقوا خلالها ألوان التعب والعذاب، لكنّ صورة جثة الطفل السوري الغريق "آلان كردي" التي وجدت ملقاةً على إحدى الشواطئ التركية كانت الأكثر تعبيراً في تلخيص المأساة، رغم عشرات الصور الموجعة لضحايا الحرب السوريّة من الأطفال، وبدا رسمُ وجه آلان، هادئاً جميلاً بلا دماء، كمن يغطّ بنومٍ عميق، بمثابة الصفعة لضمير البشرية.
وفي وقتٍ يتعثّر فيه الحصول على تأشيرة دخول إلى غالبية الدول العربية، لحاملي وثائق السفر السوريّة، كان جواز السفر السوري أحد نجوم عام "عيشها غير" الحاضرة بالتفجيرات الإرهابية التي ضربت عاصمة الأنوار باريس، وبين المهاجرين غير الشرعيين إلى أوربا من مختلف الجنسيات، حيث أصبح انتحال صفة لاجئ سوري أمراً شائعاً جداً، للحصول على معاملةٍ تفضيلية، تفتح أبواب القارة العجوز أمام الهاربين من البؤس والفقر والاضطهاد، الأمر الذي قابله السوريون بالسخرية الطريفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ومما ساهم في تغذية موجة اللجوء الجماعي إلى أوربا بين أوساط الشباب السوريين على وجه الخصوص مؤخراً؛ حملة مكثفّة قادتها السلطات المختصة، لسوق المتخلفيّن عن الخدمة الاحتياطية والإلزامية بالجيش السوري، للذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عاماً، وكان لهذه الحملة انعكاساتها الاقتصادية أيضاً، حيث فقدت أسرٌ عديدة معيليها ممن اعتادوا العمل على مدى ساعاتٍ طويلة لتوفير احتياجاتهم الأساسيّة، ومهما بلغ راتب الخدمة الاحتياطية فلن يكون كفيلاً بسد تلك الاحتياجات.
وكان الإقبال على القطع الأجنبي من (دولار ويورو) لتوفير مصاريف رحلة اللجوء، أحد العوامل التي شكلّت ضغطاً على الليرة السورية، إلى جانب مضاربات التجّار في السوق السوداء، واستمرار العقوبات الاقتصادية على سوريا، ما أدى لانخفاض سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار إلى مستوى قياسي (قرابة الـ 400 ليرة)، وأضّر كثيراً بالقوة الشرائية لها، بينما لم يشهد مستوى دخل الفرد أيّة تغييرات موازية.
وقدّرت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدّة عدد السوريين، الذين هم بحاجة إلى مساعدات إنسانية داخل سوريا: بـ "ثلاثة عشر مليون ونصف المليون سوري" (الإحصاء يعود لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي).
والدمار طال مساحاتٍ شاسعة من الأراضي السورية حيث أشارت دراسة محليّة إلى أنّ عدد المنازل المدمرّة في البلاد أصبح "يتجاوز المليوني منزل، نزح منها حوالي الستة ملايين شخص"، على وقع التطورّات الميدانية للحرب، وربمّا أبرزها خلال العام 2015؛ خروج إدلب عن سيطرة الحكومة، وإخلاء حمص بالمقابل من "الفصائل المسلحّة" بعد تسوية "الوعر"، ورغم ذلك لاتزال التفجيرات الإرهابية تستهدف باقي سكان المدينة.
أماّ في المدن السوريّة التي تشهد استقراراً نسبياً بمحاذاة الجبهات الساخنة، كما هو حال العاصمة دمشق، ورغم جهود عشرات الجمعيات الخيرية الحكومية منها، وغير الحكومية؛ أصبحت الفوارق الطبقية بين الناس تلحظ بوضوح، تتراوح بين طبقة أغنياء الحرب والطبقة المعدمة، والشوارع ذاتها تكتظ بالمتسولين، والسيّارات الفارهة، إلا أنّ سكّانها يتشاركون جميعاً، هاجس النجاة اليومي من موتٍ صار قدراً يومياً مسلّماً به، مع نزوعٍ فطري للفرح، يتجسّد بمغالبة الجراح، والاحتفال بما يشبه الأعياد، أو ارتياد المقاهي، وأماكن السهر، أو حضور السينما والمسرح، حيث شهدت "أوبرا دمشق" على سبيل المثال، برنامجاً حافلاً طيلة العام 2015.
ولم يفوّت السوريون مناسبةً للتنويه بإرثهم الثقافي والحضاري، الذي حملوه معهم إلى بلاد اللجوء رغم بؤس الحال، بينما هال العالم مشاهد سيطرة تنظيم "داعش" على تدمر، وتدميرهم معابدها، وتخريبهم لأوابدها الأثرية، وتحويلهم مدرّجها الشهير إلى مسرحٍ للقتل، وذبحهم آخر حراس تاريخها عالم الآثار السوري خالد الأسعد، بعد رفضه البوح بأسرار مكامن كنوزها.
سماء سوريا خلال سنة "عيشها غير" شهدت ازدحاماً غير مسبوق بالطائرات العسكرية لدول العالم العظمى، التي تحالفت لضرب "داعش"، وكان للروس اليد العليا في الأرض والجو، بعد إشهار تدخلّهم بشكلٍ فاعل في الحرب بطلبٍ من الحكومة السوريّة (منذ حوالي المئة يوم)، وأصبح لقاعدتهم العسكرية بالساحل السوري ثقلاً كبيراً، وحظيت بنصيبٍ وافر من التغطيات الإعلامية، تدريبات جنودهم، أسلحتهم، فاعليتهم القتالية، غذاؤهم، وكيف يمضون أوقاتهم؟ وشجرة الميلاد الضخمة التي زينّت القاعدة مؤخراً.
بينما يستمر استنزاف الشباب السوري على الجبهات الأمامية للقتال، وسط ظروفٍ بغاية الصعوبة، في بلدٍ أصبحت مسرحاً لحربٍ دولية، لا تتوقف الدول الكبرى عن إبداء قلقها حيالها، وسعيها لإنهائها، وعقدت لذلك عدّة مؤتمرات، كمؤتمري فيينا الشهيرين الذين غاب عنهما السوريّون، ومؤتمر نيويورك لإعلان مبادئ حلٍّ مازالت تفاصيله مختلفاً عليها، وذلك بموازاة اجتماعاتٍ استهدفت التأليف بين قلوب المعارضة احتضنتها موسكو، القاهرة، والرياض...، وفي الوقت ذاته يتواصل السجال حول المواقف المتباينة، وتراشق الاتهامات، بين الحكومة والمعارضات، والدول الداعمة لهما، إلى جانب تشكيل تحالفات، وفصائل مسلحة جديدة، وانهيار أخرى.
لكن رغم ذلك فثمّة تحليلات تتفائل بأنّ 2016 سيشهد على الأقل بداية الحل للسوريين، تلك التحليلات يغذيّها الأمل بجديّة مساعي المجتمع الدولي بعد تفجيرات باريس الإرهابية، وتنامي أزمة اللاجئين، وتطورّات أوضاع الحرب السوريّة الميدانية خلال عام 2015، على مستوى تسجيل تسويات في "الوعر بحمص"، و"الزبداني- مضايا بريف دمشق"، و"كفريا- الفوعة بريف ادلب"، فيما يترقب سكّان العاصمة السورية؛ ما قيل إنّه سيكون أكبر عملية إجلاء لمقاتلين اسلاميين من ريف دمشق الجنوبي، قد تمهد لعودة عشرات آلاف المدنيين إلى "مخيم اليرموك".
وبانتظار ما سيكون، يبرز السؤال الأكثر إلحاحاً اليوم؛ هل يحتمل السوريون عاماً قاسياً آخر من طراز "عيشها غير" بعد أن نال منهم الإنهاك إنسانياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وعسكرياً، بما يتجاوز حدود التعب؟ أم أن سنة 2015، ستكون آخر سنين الحرب القاسية بالنسبة لهم؟