إبراهيم عوض يكتب عن أزمة مقتل جوليو ريجيني في العلاقات المصرية الأوروبية

نشر
9 دقائق قراءة
تقرير ابراهيم عوض
تجمع حاشد في ذكرى وفاة الطالب الإيطالي جوليو ريجيني خارج السفارة الإيطالية في العاصمة المصرية القاهرةCredit: MOHAMED EL-SHAHED/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم إبراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

محتوى إعلاني

شاب مقبل على الحياة، يعتبر العالم في كليته فينظر إلى نفسه على أنه جزء منه، تخصه شئونه ويعنى بتحسن ظروف حياة الإنسان في كل مكان، مثل هذا الشاب هو النموذج الذي يمكن أن ينبني على أكتافه السلم والتعايش بين البشر. اهتمامات مثل هذا الشاب تتعدى الخصوصيات الوطنية والثقافية وهي تأكيد على وحدة البشر ودحض لكل من دعاوى التفوق الاستعماري وحجج الخصوصية الثقافية، جاءت هذه من منظور الاستشراق أو من أطروحات الاستشراق المضاد عندنا الداعية صراحة أو ضمنا إلى الانغلاق. أن يجيء هذا الشاب من الدائرة الثقافية الأوروبية سبب للاحتفاء به، وأن يكون محل اهتماماته هو ذلك الفريق من البشر الذي سكن ويسكن مصر هو أدعى للاحتفال به في بلدنا.

محتوى إعلاني

هذا الشاب هو جوليو ريجيني، الطالب القادم من إيطاليا الذي كان يحضِّر رسالة علمية في جامعة مرموقة دوليا بشأن مسألة سياسية مصرية. جاء إلى مصر ليجري أبحاثه الميدانية فاختفى ثم وجد مقتولا شرَ مقتل، آثار تعذيب واضحة عليه. عثر من عثر على جثته نصف عارية وملقاة في طريق صحراوي وكأنها قمامة فيما هو إهانة وازدراء بجنس البشر كله.

***

جريمة قتل جوليو ريجيني استرعت اهتمام الدوائر الأكاديمية في العالم، وخاصة تلك منها المعنية بدراسات عالمنا العربي والشرق الأوسط عموما. جمعية دراسات الشرق الأوسط الأمريكية وجمعية دراسات الشرق الأوسط البريطانية وآلاف الأكاديميين بعثوا برسائل مختلفة إلى رئيس الجمهورية يعربون فيها عن صدمتهم، ويشيرون إلى وقوع الجريمة في جو عام من التضييق على الحريات الأكاديمية، ويطالبون بسرعة التحقيق في ملابسات مقتل الباحث الشاب، والكشف عن الجناة.

بلد القتيل، إيطاليا، قطعت وزيرة فيها زيارتها لمصر، وعلّقت التوقيع على عدد من الاتفاقيات التي جرى الاتفاق عليها، وهي طلبت رسميا المشاركة في التحقيقات وأرسلت بالفعل محققين لهذا الغرض، وهي نقلت الجثمان إلى إيطاليا وأجرى أطباء شرعيون فيها تشريحا ثانيا للجثة كشف عن أن القتل كان نتيجة مباشرة للتعذيب، ولم يكن فقط من إثاره التي تمثلت في ضرب وحروق وقطع هنا وجروح هناك.

أوجب علينا نحن في مصر، دولة ومجتمعا، أن نولي أقصى درجات الاهتمام لهذه الجريمة بالكشف عن ملابساتها والجناة الذين ارتكبوها، وبمحاسبتهم جنائيا على اختطافهم وتعذيبهم وقتلهم لنفس بشرية، وعلى ما ارتكبوه في حق مصر، بلدهم. ونحن نولي أشد العناية لهذه الجريمة الشنعاء يجب أن نرتفع إلى مستوى المسئولية تجاه بلدنا وأن نعي الظروف التي وقعت فيها الجريمة وأن نفهم ردود الأفعال والغضب في إيطاليا وفي الدوائر الأكاديمية في العالم. رفض الشكوك التي يعبر عنها هؤلاء وأولئك لا يجدي فهو لن يثنيهم عن أن يعبروا عما يختلج في نفوسهم. الشكوك تجد منطقها في تفسيرات مؤسفة، إن لم تكن مخزية، لمقتل الباحث الإيطالي صدرت عن الأجهزة المعنية. أول ما قيل في تفسير مصرعه هو أنه كان نتيجة لحادث سير. وحتى بعدما ذاع خبر تعذيبه تعذيبا بشعا أفضى إلى مقتله صدر عن هذه الأجهزة ما يفيد شكها في أن مأساته رجعت إلى رغبة في سرقته. لولا الخجل من أن يأخذ المعلق مثل هذه الدعاوى مأخذ الجد لتساءل عن أي حادث سير هذا أو أي لص ذاك الذي يعذب ضحيته ليدهسها أو ليسرقها! هل سمع أحد عن سوابق لمثل هذا التعذيب؟ ثم دار إيحاء بأن القتيل كان "مثليا"، وهو لم يكن كذلك، لكي ترتد المسئولية عن مقتله إليه وحتى "يلوّث" في مجتمع محافظ مثل مجتمعنا المصري. ولا يغيب لا عن المتابعين الأجانب ولا عن المصريين أن نفس الأجهزة التي فسرت التعذيب والقتل بحادث سير أو بسرقة، قبل سنوات ست اتهمت خالد سعيد بأنه قتل نفسه قبل أن تظهر حقيقة أنه قتل على أيدي عنصرين من عناصر حفظ النظام العام، وهم لا ينسون أنها في العام الماضي اتهمت زميلا لشيماء الصباغ بقتلها قبل أن تظهر أيضا حقيقة وقوعها صريعة لرصاص واحد من المفترض فيهم حماية المواطنين وممتلكاتهم. ولا يمكن للمتابعين أن يتفادوا بعد ذلك المقارنة بين اتهام زميل شيماء الصباغ، من جانب، والشك في الأيام الأخيرة في عدد من أصدقاء الضحية الإيطالية ووضعهم تحت المراقبة لأنهم "لم يستطيعوا تحديد أماكن تواجدهم في 25 يناير"، من جانب آخر. مثل هذه التصريحات هي التي ينبغي رفضها رفضا قاطعا لأنها، لتهافتها، تثير الشكوك فيمن تصدر عنه وتعيد إلى الأذهان وبقوة ظروف البيئة العامة التي وقعت فيها الجريمة.

***

الضحية باحث في الشأن السياسي المصري يجري بحثا ميدانيا في موضوع شائك، والجميع يعلم إجراء الأبحاث الميدانية ولو بشأن أبسط الموضوعات في مصر، سواء كان الباحث مصريا أو أجنبيا. ثم إن هذا الموضوع هو الحرية النقابية والنقابات المستقلة في وقت شاع فيه صدور تعليمات بعدم تعامل أجهزة الدولة مع هذه النقابات وقصر معاملاتها على النقابات المسماة "بالرسمية" التي يكفل لها قانون النقابات الساري احتكار تمثيل العمال. أضف إلى ذلك، التضييق على دخول الباحثين الأجانب ورفضه للبعض منهم، ولو كانوا عربا، صار ممارسة معتادة. على الرغم من النفي الرسمي لوجود حالات اختفاء قسري، فإن من الناس من يختفون بالفعل ثم يظهرون فجأة في السجون أو لا يظهرون. وصول رئيس إحدى الجامعات إلى أن يعلن عن إلزام أعضاء هيئة التدريس بالحصول على موافقته للكتابة في الصحف أو الظهور في غيرها من وسائط الاتصال، وفي قول من الأقوال للمشاركة بأبحاث في محافل علمية، هو حالة قصوى من الضيق بالرأي وبالتفرد وبالتعبير وبالبحث. استدعاء خلود صابر، الباحثة النابهة، من الجامعة الأجنبية التي حازت على منحة منها للتحضير للحصول على درجة الدكتوراه، وبعد أن حصلت على كل الموافقات، التي لا ينبغي أن توجد أصلا، هو مثال آخر على التعسف مع البحث والباحثين.

الأجواء العامة وسلوك الأجهزة المعنية في مصر هي التي تفسر ردود الفعل الإيطالية والأكاديمية. مرة أخرى لا بدّ أن ندرك أن الحدث جلل وأنه يستحق منّا كل الجدية. فإيطاليا هي الشريك التجاري الأول لمصر ومن أولى مصادر الاستثمار فيها والسياحة إليها. إيطاليا هي التي اكتشفت هيئتها الوطنية للمحروقات منذ شهور قليلة حقل الغاز الطبيعي العملاق في المياه المصرية في البحر المتوسط والذي تقدر سعته بـ30 تريليون متر مكعب، تعادل 5,5 بليون برميل من النفط. بعد اكتشاف الغاز هذه الهيئة هي التي ينتظر أن تستخرجه. إيطاليا هي التي يتفق منظورها مع الموقف المصري الحالي من تسوية الأزمة الليبية. على الرغم من كل ذلك، رئيس الوزراء الإيطالي صرّح بأن استمرار الصداقة يتوقف على الكشف عن الحقيقة. وإيطاليا في قلب الاتحاد الأوروبي، أي عطب يصيب العلاقات معها، دولة ومجتمعا، ستكون له آثاره على مجمل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وبلدانه. الاتحاد الأوروبي في مجموعه هو أول مصدر لوارداتنا وأول سوق لصادراتنا. في إجمالي التجارة الدولية لمصر، الاتحاد الأوروبي يمثل 31,4% منها، بينما لا تمثل الثانية، وهي الصين الا 8,4%، والولايات المتحدة إلا 6,5%، والمملكة العربية السعودية إلا 4,6%.

***

المقام مقام جد كل الجد. أولا الواقعة جريمة تعذيب وقتل باحث شاب يبحث في شئون مصر، وليست شئون أي بلد قاصرة على مواطنيها لأنه ليست للمعرفة أصل ولا جنسية. وثانيا الواقعة وملابساتها تتعلق بالمصلحة العليا لمصر والمصريين، ولكلا السببين ينبغي جلاؤها جلاء تاما أيا كان المذنب وراءها.

الكشف عن الحقيقة هو الذي يحفظ لمصر علاقاتها وللحكم فيها سمعته. للسمعة قيمة كبري في العلاقات بين الدول.

نشر
محتوى إعلاني