عمرو حمزاوي يكتب عن المستبدين وحكّام النظم السلطوية: مسار إجباري إلى خارج التاريخ
هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
يعمد المستبدون وحكام النظم السلطوية إلى فرض روايتهم الأحادية المتهافتة للأحداث على الفضاء العام بغرض تزييف وعي الناس. يوظفون تمريرهم لقوانين وسياسات وقرارات تجرم أو تمنع حرية تداول الحقائق والمعلومات لكي يمعنوا في السيطرة على الفضاء العام. يسيطرون على المكونات التقليدية للفضاء العام المتمثلة في وسائل الإعلام وفي مساحات النقاش العلنية في المدارس والجامعات ومؤسسات التنشئة الدينية والمدنية، ويقمعون المجتمع المدني المستقل بمنظماته ونقاباته المهنية وحركاته العمالية ومبادرات المواطنين غير التقليدية. ثم يحاصرون الجميع حصار الإلغاء، ويهجرون المواطن المتمسك بحرية الفكر وبالتعبير الحر عن الرأي بعيدا عن الفضاء العام أو يعملون على إحاطته بأسوار الخوف ويخضعونه للتهديد المتصاعد بالقمع كلما تراجعت فاعلية الخوف. وفي كافة هذه السياقات يميت المستبدون وحكام النظم السلطوية السياسة كنشاط سلمي وحر وتعددي وجهته صناعة التوافق المجتمعي، ويغتالون العقل، ويحتفون بالعبث والجنون كمسار إجباري إلى خارج التاريخ. هذا هو جوهر روايتهم الأحادية المتهافتة.
يصنعون من أنفسهم الأبطال المخلصين والمنقذين الواجب على "جموع الشعب" طاعتهم والامتثال لإرادتهم. يصنعون من مؤسسات وأجهزة قمعهم الأدوات الوحيدة لحماية الأمن القومي، والانتصار للمصالح الوطنية في وجه المؤامرات والمتآمرين، ومن الجرائم ضد الإنسانية والمظالم والانتهاكات عنوانا لحرب على الإرهاب. يصنعون من رافضي الصمت على غياب العدل وتراكم المظالم والانتهاكات صنوف من المتآمرين والخونة والعملاء والخارجين على القانون، يبرر أن ينزل بهم "العقاب الجماعي" لكي تطهر البلاد من شرورهم المزعومة. يصنعون من المواطن شيئا خاويا، يعطل ضميره ويلغى عقله لكي يسحق في "جموع الشعب" المختزلة إلى قطيع واجبه الوحيد طاعة المنقذ وتأييده، بل والشعور الإجباري نحوه بالحب والامتنان والعرفان. هنا أيضا مسار إجباري إلى خارج التاريخ، وجوهر إضافي للرواية الأحادية المتهافتة.
***
يتصاعد حديث المستبدين وحكام النظم السلطوية عن "المؤامرات" كلما تراكمت الأزمات الداخلية والخارجية، كلما أصبح العجز عن إيقاف تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية واضحا لعموم الناس. يزداد تنوع صنوف المتآمرين والخونة والعملاء المتوهمين، لكي يدفع بالمسؤولية عن الفشل والأزمات المتراكمة باتجاههم وتصنع منهم كباش فداء مستباحة الدماء بعد أن تنزع عنها كل قيمة إنسانية ووطنية. ثم يوظفون روايتهم الأحادية في الترويج لوعود "الإنجازات القادمة" كبديل فاسد لغياب النقاش الجاد حول بدائل السياسات العامة لمواجهة الفقر والبطالة وتراجع معدلات التنمية المستدامة. هنا أيضا مسار إجباري إلى خارج التاريخ، وجوهر ثالث للرواية الأحادية المتهافتة.
ينكرون القمع أو يصفونه كتجاوزات فردية أو يبررونه "كضرورة لضمان الأمن وتثبيت دعائم نظام الحكم وصون مؤسسات الدولة وحماية الدولة"، طبعا من المؤامرات التي تحاصرها من كل صوب وحدب وتتساقط عليها من السماء. وعلى الرغم من أن فاعلية القمع، شأنها شأن فاعلية الخوف، سرعان ما تتهاوى ويضيع أثرها المتمثل في حمل الناس على الامتثال لسياسات وقرارات وممارسات المنقذين أو العزوف والانسحاب من الشأن العام أو الصمت التام، فإن المستبدين وحكام النظم السلطوية يتمادون في القمع ويورطون مؤسسات وأجهزة الدولة في جرائم سلب حرية الناس (سجنا وحبسا ومنعا من السفر) وفي انتهاك حقوقهم وكرامتهم الإنسانية والتخوين الجماعي لقطاعات شعبية واسعة حين تحتج على الظلم. والنتيجة الوحيدة لكل ذلك هي أن جمهورية الخوف التي يسعون لتأسيسها تنقلب إلى جمهورية خوف خائفة، ويتحول الحكام من مدعي قدرات بطولية وخلاصية وإنقاذية إلى مذعورين مصابين ببارانويا الخوف من المواطن والاشتباه في عموم المجتمع، وتختزل مؤسسات وأجهزة الدولة في مؤسسات "الأخ الكبير" التي تتنصت وتراقب وتتعقب وتهدد وتقمع وتعاقب. هنا أيضا مسار إجباري إلى خارج التاريخ، وجوهر رابع لرواية المستبدين الأحادية.
***
غير أن ما تمارسه النظم الاستبدادية والسلطوية في بلادنا، وفي البلاد التي تتشابه مآسيها مع مآسينا، من توظيف عنيف لاستراتيجيات تزييف الوعي الجمعي هذه ومن تورط في مسارات إجبارية إلى خارج التاريخ يعجز في التحليل الأخير عن فرض روايتها الأحادية كحقيقة مطلقة لا تقبل المنازعة.
من جهة، لأن التكنولوجيات الحديثة، وكما تمكن مؤسسات وأجهزة الأخ الكبير من المراقبة الدائمة للمواطن والتنصت المستمر عليه، تمكن أيضا من تداول الحقائق والمعلومات وتسمح للمواطن إن رغب بتحدي القيود الكثيرة التي يفرضها المستبدون وحكام النظم السلطوية في هذا الصدد.
من جهة ثانية، لأن الفضاء العام لم يعد يقبل الاختزال إلى وسائل الإعلام التقليدية ومساحات النقاش العلنية المسيطر عليها حكوميا، وأصبح يتسع لوسائط الاتصال الاجتماعي ولساحات للنقاش إما تغيب عنها ثنائيات القوة / السلطة التقليدية أو تحضر بها حقائق القوة والسلطة بتنوع في وجهاتها ومضامينها يبقي على درجة متميزة من حرية الفكر، وحرية التعبير عن الرأي، ومن ممارسة التعددية.
من جهة ثالثة، لأن الكثير من المجموعات المدافعة عن الحقوق والحريات والديمقراطية، وعلى الرغم من حصار الإلغاء والتخوين والتشويه الذي تواجهه، تستثمر بوعي بعضا من طاقاتها المعرفية وإمكانياتها البشرية وقدراتها التنظيمية في تدوين تفاصيل حكم المستبدين. وهي بذلك تسعى لنزع طبقات الزيف المتراكمة بعيدا عن المظالم والانتهاكات التي تتورط بها مؤسسات وأجهزة الأخ الكبير، وتمكن من ثم قطاعات تتسع باطراد من الناس من رؤيتها على حقيقتها وإدراك كونها ممارسات قمعية يستحيل الدفاع عنها أو تبريرها أو تجاهل الهاوية التي تسقط بها المواطن والمجتمع والدولة.
لذلك، يبدو جليا في بلاد العرب اليوم انصراف قطاعات شعبية مؤثرة عن الروايات الأحادية للحكام، وتحدي الشعوب للمسارات الإجبارية للخروج من التاريخ التي يفرضونها علينا. تتشكل تدريجيا روايات بديلة تسمي جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم القمع والمظالم والانتهاكات بمسمياتها، دون تحايل أو مساومة. تتساوى في هذا براميل ديكتاتور سوريا المتفجرة والقتل الجماعي منخفض التكلفة الذي تنفذه عصاباته مع جرائم عصابات داعش واعتياشها على الدماء والوحشية. وتتشابه هنا جرائم القتل خارج القانون وجرائم التعذيب في مصر مع جرائم اليد القمعية لمؤسسات وأجهزة الأخ الكبير في العديد من دول الخليج.
ملاحظة غير هامشية: لأن الشيء بالشيء يذكر؛ ترد في عنوان المقال أعلاه كلمة مسار وكلمة إجباري، والكلمتان تشكلان اسم فريق موسيقي رائع أعشق أعماله. لمن ينقبون عن الجمال وسط القبح وعن المعنى وسط العبث وعن الإبداع والخيال وسط القمع، استمعوا إلى فريق مسار إجباري في أغنية "ما تخافش من بكره افتح بيبان الصمت"، وفي أغنية "أنا هويت.، وغيرهما الكثير والكثير.
افتح بيبان الصمت، وأصرخ بصوت مسموع، إن زاد عليك الصبر خلي الجبين مرفوع.