عمرو حمزاوي يقارن بين حقوق السجناء في مصر وأمريكا.. يوم وما وراءه
هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لم يكن ليومي هذا أن يحمل المزيد من المشاهد المتناقضة، ولا أن يرتب المزيد من المقارنات المريرة بشأن أحداث تلاحقت خلال ساعاته الممتدة بين مكانين، مصر والولايات المتحدة الأمريكية.
استيقظت الثلاثاء الماضي على رسائل إلكترونية قادمة من مصر تتحدث عن إضراب بعض "سجناء العقرب" عن الطعام بسبب حرمانهم من العديد من عناصر المعاملة الآدمية التي هي حق للقابعين وراء أسوار السجون وأماكن الاحتجاز. وبينما تتدهور الحالة الصحية لبعض السجناء المضربين وينقلوا على إثر ذلك إلى وحدات للرعاية الصحية تابعة لمصلحة السجون، يتسع نطاق إضراب "سجناء العقرب" ليصبح، كما تخبرني الرسائل المتتالية وتتداول بعض المواقع الإخبارية، إضرابا عاما احتجاجا على غياب زيارات الأهل، وصعوبة الحصول على الغذاء والدواء والكساء، والتعسف في إجراءات الحبس الانفرادي.
أكتب على تويتر متضامنا مع السجناء المضربين ومطالبا بصون كرامة وحقوق جميع السجناء دون معايير مزدوجة، دون تمييز بين عصام سلطان وهشام جعفر وحسام السيد وأحمد سعيد وآخرين. أتشكك وأنا أكتب في مدى قدرة الكلمات على تغيير واقع المظالم والانتهاكات الذي بات يحاصرنا في مصر. تصلني رسائل إضافية يراوح محتواها بين تشجيع ومطالبة بتضامن يتجاوز الكلمات التي لم يعد لي من أدوات غيرها، وبين تعبير عن اليأس من فضاء عام يدفع المصريات والمصريين إلى اختيار الجنون والعبث ويجعلهم يعزفون عن التضامن العريض مع سجناء تسلب حريتهم -- عمرو حمزاوي وتسلب حقوقهم وحقوق ذويهم.
***
مساء نفس اليوم، أذهب لأغراض المتابعة إلى مجمع انتخابي "لاختيار مرشح الانتخابات الرئاسية 2016" يعقده الحزب الديمقراطي الأمريكي في مدينة بولاية مينسوتا الواقعة في شمال الولايات المتحدة (إلى الشرق قليلا، على الحدود الأمريكية الكندية) والمعروف عن سكانها تأييد الأفكار التقدمية. يعقد المجمع الانتخابي للديمقراطيين بمدرسة حكومية، وغير بعيد عنه يعقد المجمع الانتخابي للجمهوريين في مدرسة حكومية أخرى. أشاهد الصفوف الطويلة لسيدات ورجال وشباب (وبعض الأطفال) ينتظرون في صبر لكي يتمكنوا من دخول الفصول والقاعات المدرسية التي يتوزعون عليها وفقا لأماكن السكن. أتذكر الصفوف الطويلة للناخبات والناخبين في مصر حين أجريت الانتخابات البرلمانية 2011، وسجلت نسب مشاركة اقتربت من 60 بالمائة.
تصل أستاذة العلوم السياسية التي اصطحبتني إلى المجمع الانتخابي (وكنت قد ألقيت محاضرة في جامعتها ظهيرة الثلاثاء) إلى الفصل المدرسي المخصص لحيها السكني، تسجل هي حضورها وأبلغ أنا السيدتين المسؤولتين عن تسجيل الناخبين بكوني راغب في المتابعة فقط دون مشاركة. لا أسأل ولا يسأل غيري عن بطاقات هوية، ويبدو جليا وجودي كغريب بين سكان حي يعرفون بعضهم البعض ويثقون على نحو جماعي في هوية الحضور وانتماءهم الحزبي للديمقراطيين أو على الأقل رغبتهم في التصويت في مجمع الديمقراطيين الانتخابي.
تبدأ أعمال المجمع الانتخابي، فيحصل الحضور على بطاقات صفراء لتدوين تفضيلهم الرئاسي فإما هيلاري كلينتون أو برني ساندرز. غير أن الأكثر إثارة في أعمال المجمع سرعان ما يبدأ أيضا. في ممارسة للديمقراطية المباشرة، يحق للحضور طرح تعديلات على القوانين المعمول بها في ولاية مينسوتا، يصوت على كل تعديل مقترح وحال حصوله على أغلبية الأصوات يصعد إلى المستويات الأعلى للمجمعات الانتخابية (المقاطعة فالولاية) لكي يتبناه الحزب الديمقراطي ويطبقه إن كانت له الأغلبية في برلمان الولاية أو منصب حاكم الولاية أو الأغلبية التشريعية والموقع التنفيذي معا، وهذا هو الحال الراهن للديمقراطيين في الولاية التقدمية. تطرح الكثير من مقترحات التعديلات، بعضها يتعلق بمقاومة التلوث البيئي، وبعضها الآخر يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية، وبعضها الثالث يرتبط ببلاد العرب. يقترح شاب بين الحضور أن يمرر تعديل قانوني يلزم سلطات الولاية باستقبال 20 ألف لاجئ سوري بين 2016 و2020، يحصل المقترح على أصوات جميع الحاضرين. تقترح سيدة أن يمرر تعديل قانوني يلزم سلطات الولاية بسحب ما يقرب من 25 مليون دولار تستثمر في إسرائيل نظرا لاستمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، يحصل المقترح على أغلبية أصوات الحاضرين ومن ثم يعتمد.
ثم يأتي المجمع الانتخابي إلى مناقشة حقوق السجناء في سياق مقترحين يقدمهما من طالب جامعي ومن أستاذ جامعي متقاعد. يقترح الطالب تعديلا قانونيا تلتزم سلطات الولاية بمقتضاه إما بإغلاق السجون التي تديرها شركات خاصة أو بتحويلها إلى الإدارة العامة في غضون عامي 2016 و2017. يعلل الطالب لمقترحه ساردا حقائق تتعلق بسوء معاملة السجناء في سجون "القطاع الخاص" بسبب استهدافها الربح وإهمالها لبعض متطلبات الصحة النفسية والذهنية والبدنية للسجناء، ثم يعرض لبعض الأمثلة المحددة التي تدلل على سوء المعاملة كان من بينها غياب التواجد المنتظم للأخصائيين النفسيين في السجون. بعد الشرح الوافي، يبدأ التصويت وتكون حصيلته مواقفة جميع الحضور على المقترح.
بعد ذلك يطرح الأستاذ الجامعي المتقاعد تعديلا قانونيا آخر يتناول قضية الحقوق السياسية للسجناء. يمهد الأستاذ المتخصص في الدراسات الدينية لطرحه بإشارات محددة إلى الزيادة المطردة في أعداد السجناء بالنسبة إلى إجمالي سكان الولاية، إلى جرائم الغش والنصب التي تزج بكثيرين خلف الأسوار، إلى محدودية عدد السجناء الذين تورطوا في جرائم عنف مادي أو جنسي في مختلف سجون مينسوتا. ثم ينتقل إلى مستوى تمهيدي ثاني يتحدث من خلاله عن دراسات علم النفس ودراسات علم الاجتماع المعاصرة التي تقطع بأن دمج السجناء والقابعين وراء الأسوار في الحياة المجتمعية يعد وسيلة أساسية لإعادة تأهيلهم وتمكينهم من الانفتاح الإيجابي على المجتمع بعد أن تنقضي العقوبة، وبأن ممارسة السجناء للحقوق السياسية مثل الحق في المشاركة الانتخابية تعد خطوة جوهرية في هذا الصدد. بعد التمهيد الأول والثاني، يقترح الأستاذ أن تعدل قوانين الولاية التي تحرم السجناء وأصحاب السوابق الجنائية من الحقوق السياسية لكي تمكن السجناء غير المتورطين في جرائم قتل أو عنف أو تهديد بعنف من التمتع بحقوقهم السياسية إما أثناء فترة العقوبة أو في فترتها الأخيرة أو في أعقابها مباشرة وفقا لتقدير سلطات الولاية على أن لا يتضمن ذلك تنصلا من إقرار الحقوق السياسية للسجناء. يصفق الحضور بكثافة، بكل تأكيد امتنانا لدقة طرح الأستاذ للقضية ولتعاطفهم مع المبدأ العام، ثم يحصل المقترح على أصوات الجميع.
تصل أعمال المجمع الانتخابي إلى نهايتها، تعلن نتيجة التصويت، يحصل ساندرز على ما يقرب من 200 صوت بينما تتجاوز الأصوات الممنوحة لكلينتون حاجز 90 صوت بقليل. تصل أعمال المجمع الانتخابي إلى نهايتها، ينقل الإعلام نبأ فوز ساندرز بأصوات الديمقراطيين في ولاية مينسوتا ويفوز من المتنافسين الجمهوريين ماركو روبيو وليس الكارثة دونالد ترامب، أنها حقا ولاية تقدمية. تصل أعمال المجمع الانتخابي إلى نهايتها، بعد أن تم تمرير تعديلات قانونية مبهرة قد يجد بعضها سبيله إلى الاعتماد على مستوى الولاية.
***
تصل إلى نهايتها، بعد أن استوى التناقض مطلقا بين حقوق السجناء المهدرة ومحدودية التضامن الشعبي معهم في مصر حتى حين يضربون جماعيا عن الطعام احتجاجا على سوء المعاملة كما في سجن العقرب وبين حرص الأمريكيين التقدميين على الانتصار لحقوق السجناء وصونها من الانتقاص -- عمرو حمزاوي والنظر إلى التمتع بها كوسيلة لإعادة الانخراط في المجتمع بل وحمايتها من الجشع الربحي للقطاع الخاص.
يوم له ما وراءه.