عمرو عادلي يكتب: متضامن مع فاطمة ناعوت ولكن...
هذا المقال بقلم عمرو عادلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
لا شك أن الحكم بحبس الكاتبة فاطمة ناعوت بتهمة ازدرائها للأديان يوجب التضامن معها من باب حرية التعبير والرأي والاعتقاد، وهي المبادئ الراسخة في المجتمعات المتحضرة، ولكن في الوقت ذاته لا يعني التضامن الكف عن توجيه النقد المستحق للخطاب "التنويري" الذي تعبر عنه ناعوت، بل والذي أصبحت وجها من وجوهه في أعقاب ثورة يناير وما شهدته الفترة اللاحقة عليها من صعود للتيار الإسلامي، واحتدام الجدل حول علاقة الدين بالمجال العام وبالسياسة، ويجمع هذا الخطاب وجوها ترى نفسها ليبرالية مع أخرى ذات انتماء ناصري أو ماركسي انبرت في معارك على صفحات الجرائد وفي الفضاء الافتراضي ضد "المعسكر الظلامي"، ودفاعا بحسم عن ميراث التنوير في مواجهة الغزو الوهابي والزحف السلفي.
ويرى أهل هذا التيار أنهم يمثلون امتدادا حيا للمشروع التنويري الذي بدأ مع رفاعة الطهطاوي وتشكلت ملامحه في مطلع القرن العشرين من كتاب ومثقفين وسياسيين ربطوا التحرر الوطني بالإصلاح الاجتماعي القائم على الأخذ من "الحضارة الغربية" في مسائل كتعميم التعليم الأساسي والتوسع في التعليم الجامعي، بما في ذلك تعليم الإناث، وتمكين النساء من الحضور في الحيز العام، وإطلاق العقل في مواجهة التقليد وما يعنيه هذا من مراجعة للتراث بشكل نقدي، وقد خاض هؤلاء، وخاصة أناس مثل قاسم أمين وطه حسين وغيرهم، معارك فكرية وسياسية عنيفة في خلال القرن العشرين شكلت فعليا المجتمع والدولة في مصر المعاصرة، ولا يعني هذا أنهم قد انتصروا في كافة معاركهم حتى النهاية، ولكن ما من علامة على أن مشروعهم قد أجهض في مهده أو أنهم قد هزموا بشكل يوجب استئناف معركتهم.
***
فاليوم وبعد أكثر من قرن من صدور كتابات قاسم أمين لم تعد المشكلة في تعليم الإناث أو في خروج النساء للمجال والحيز العامين، فعلى الرغم من مشكلات توصيل خدمات التعليم الأساسي للإناث في المنطقة الريفية الفقيرة فإن الغالبية الكاسحة منهن يحصلن اليوم على قدر منه، وعلى الرغم من استمرار انخفاض سن الزواج والإنجاب في العديد من المناطق الريفية الفقيرة في مصر فإن متوسط سن الزواج والإنجاب في مصر، ومعدله بالمناسبة، قد انخفضا وبشكل كبير، على نحو متشابه مع العديد من البلدان النامية الأخرى، كما أن معدلات التعليم الجامعي والمتوسط لا تشي بأن ثمة تمييزا ضد النساء، ولعل الأهم من هذا وذاك أنه لم يعد هناك من يمثل "التيار التقليدي" الذي واجه الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين من منكري تعليم النساء، خلافا لبلدان مثل أفغانستان أو نيجيريا التي تستهدف فيها الجماعات المسلحة مدارس تعليم البنات حتى اليوم أو مثل السعودية حيث يضيق على النساء الوجود في الحيز العام.
وكذا الحال مع مشاركة النساء في سوق العمل فعلى الرغم من أن معدل المشاركة في البلاد العربية هو الأدنى في العالم طبقا لمؤشرات البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية إلا أن المشكلة لا تبدو فحسب ناتجة عن الجوانب الثقافية، فمشاركة النساء في مصر تقدر بنحو ٢٤٪ من سوق العمل مقارنة بنحو ٢٧٪ و٣٠٪ في تونس وتركيا على الترتيب، وهما البلدان اللذان شهدا إصلاحات قانونية جريئة في مجال الأحوال الشخصية من أجل تحرير النساء ومساواتهن بشكل قانوني مع الرجال، فوصول النساء لسوق العمل مسألة شائكة تتضمن جوانب اقتصادية واجتماعية جندرية أشد تعقيدا من مجرد الزعم بأن القضية تمكن من استمرار التيار التقليدي الذي يريد أن يمنع النساء من الخروج من البيوت. وبنفس المنطق فإنه من غير المطروح اليوم أن يجادل أحدهم بحبس النساء في البيوت، بل تدور الجدالات جميعا حول التحرش بالنساء في الحيز العام، وما يجب أن تلبسنه وأشكال السيطرة دينية أو أخلاقية الأصل على الأجساد والسلوك. بيد أنه لو عاد قاسم أمين من الموت لما وجد الكثير ليقول حول السماح للنساء بالخروج من الحريم، أو ضرورة إرسالهن للتعليم.
***
إن تجربة التحديث في مصر، والتي بدأت بشكل سلطوي فوقي في عهد الباشا محمد علي قبل قرنين من الزمان قد أنتجت تحولات هيكلية في المجتمع المصري، فقد انتصر الباشا على خصومه من زعماء القبائل ورؤساء البدو والمماليك، وقد انتصر تيار محمد عبده في الأزهر بعدها بنحو قرن، وأصبح مشائخ الأزهر الكبار من تلامذته في القرن العشرين مثل الأحمدي الظواهري والمراغي، واندثر التيار التقليدي الذي كان يقف ضد التحديث جملة واحدة.
هل هذا يعني أن المجتمع المصري قد صار حديثا وأن كل شئ على ما يرام؟ إن الإجابة هي بالنفي قطعا، لأن المجتمع المصري لم يصبح حديثا ـ إذا قسنا على التجارب الغربية السابقة ـ ولكنه بالقطع لم يعد تقليديا، وحتى أشد أشكال الأصولية الدينية السلفية أو أطروحات سيطرة الدين على الدولة وعلى المجال العام هي وليدة تجارب التحديث نفسه من حيث الانتقال من الريف للمدينة، ومن حيث تعميم التعليم العام، وإنشاء الجامعات المدنية ـ غير الدينية ـ، وهو ما أدى لأن يخرج الإخوان المسلمون من مدينة على شواطئ قناة السويس في العشرينيات، وأن تخرج الجماعة الإسلامية في السبعينيات من حرم جامعة أسيوط، لا من الأرياف القاصية، وأن تكون قيادات الإخوان والدعوة السلفية من الأطباء والصيادلة والمهندسين، وأن يكون مؤيدوهم من سكان المدن ومن أبناء الطبقات المتوسطة في كثير من الأحيان.
إن القضية هي إن جدالات التحديث التي شغلت المصريين في مطلع القرن العشرين قد انتهت بحدوث تحول اجتماعي واقتصادي على المستوى الهيكلي، ولم يعد من المجدي الآن العودة لإحياء معارك ضد طواحين الهواء بحيث يتصور بعضنا أنه قاسم أمين أو سلامة موسى أو هدى شعراوي، فالتحديات مختلفة قلبا وقالبا.