أمل أبو ستة تكتب.. ماذا لو كان صادق خان "عمدة لندن" مصرياً؟
هذا المقال بقلم أمل أبو ستة، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أن الآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
تخيل معي ابن مصري أصيل، الخامس بين أشقائه في أسرة تتكون من ثمانية أبناء ينتمي والداه للطبقة العاملة، يعمل والده سائق أوتوبيس بينما تمتهن والدته الخياطة، يضطر للعمل في سن صغيرة في توزيع الصحف تارة وفي أعمال البناء تارة لكي يساعد أسرته التي لا تنفق فقط على الأبناء الثمانية، بل تساعد أفراد أخرى من العائلة أيضا لضيق ذات اليد.
تخيلت؟ ... كيف ترى مستقبل ذلك الابن؟ هل سيتمكن من التعلم؟ إلى أين سيصل في التعليم؟ هل تراه مستحقا للتعليم الجامعي؟ لعلك ترى أنه ينبغي أن يكتفي بشهادة متوسطة وبتعلم حرفة حتى يتكمن من مساعدة أهله. وعلى فرض حصوله على شهادة جامعية، هل تراه مناسبا للعمل كمسئول في الدولة؟ ربما تعتقد أن في بيئته البسيطة ما يمنع من تقلده بعض المناصب أو من عمله ببعض المهن التي تحظى باحترام المجتمع وثقته ...
***
والآن دعني أقدم لك ابن انجليزي مولود في نفس الظروف بالضبط. صادق خان. ذلك المواطن الإنجليزي المولود بلندن والذي برغم كفاحه هو وأسرته المهاجرة من باكستان في الستينات من القرن الماضي تمكن من تلقي تعليما مجانيا جيدا مثله مثل السواد الأعظم من أبناء الشعب الإنجليزي، وهو التعليم الذي ساعده على اكتشاف قدراته في المناقشة واستخدام الحجة ومكنه من الالتحاق بالجامعة لدراسة القانون والتي كانت مواهبه وقدراته الأكاديمية وليست المادية هي الأصل في تأهيله لدخولها. وتخرج صادق خان ليتقلد المنصب المشرف الواحد تلو الآخر، فعمل محاميا حقوقيا ومحاضرا زائرا في جامعة شمال لندن وأصبح نائبا في البرلمان ومستشارا لرئيس الوزراء ووزيرا مرتين ومؤخرا تم انتخابه عمدة لندن وهو المنصب الأرفع والأهم في سلسلة المناصب التي تقلدها.
لقد تمكن العمدة صادق خان ذو الخامسة والأربعين ربيعا هو وأسرته من مواجهة كل التحديات التي واجهتهم كونه ينتمي إلى أقلية مهاجرة، غير أبيض، مسلم، ومن أسرة محدودة الدخل ... ولكنه تمكن من مواجهة كل ذلك بفضل نظام عادل إلى حد كبير، نظام يقوم على تكافؤ الفرص، نظام يفرز الأفضل لا الأغنى. ليست يوتوبيا بطبيعة الحال. فإنجلترا تعاني من مواجهة النيوليبرالية التي تدخل معركة شرسة كل يوم أمام نظام يقوم في الأصل على العدالة الاجتماعية ويبدو أنها قد فازت في عدة جولات حتى الآن. والنظام العادل الذي أفرز خان لم يعد عادلا كما كان في الماضي. فسياسات التقشف قد طالت الجامعات منذ بضع سنوات فتضاعفت مصاريفها ثلاثة أضعاف بين يوم وليلة ولم تنجح الحركة الطلابية الواسعة المناهضة لتلك السياسات في انتزاع حقها بعد ولا زالت تطالب بمجانية التعليم العالي إيمانا بدور التعليم في تقدم المجتمعات.
وبعيدا عن أهمية صادق خان كأول مسلم يتقلد منصب عمادة لندن أو عمادة أي من المدن الكبيرة في أوروبا، فخان قيادي بحزب العمال الإنجليزي وهو حزب يساري معتدل يتبنى السياسات المدافعة عن الحقوق والحريات الداعمة للمواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص. ويشير خان في إحدى حواراته الصحفية إلى أسفه لأن الفرصة التي أتيحت له لتلقي تعليم في متناول الأيدي لم تعد متاحة للجميع. وهكذا فإن وصول خان لمنصبه الجديد يفتح الآفاق نحو سياسات أكثر عدلا في إنجلترا.
***
لو كان صادق خان مصريا لكان مصيره في الغالب موظفا بإحدى الهيئات الحكومية بشهادة متوسطة أو على أقصى تقدير محاميا يلهث وراء أكل العيش والدفاع عن الحقوق والحريات ولما تمكن من تقلد أية مناصب حكومية بدعوى أصوله الأجنبية وبيئته المتواضعة اجتماعيا. لو كان مصريا لما استطاع أن يتلقى تعليما جيدا لأن التعليم المجاني في مصر ليس كمثيله في إنجلترا، هو تعليم لا يسمن ولا يغني من جوع، هو تعليم لا يسلح بالعلم بل يسلح بالشهادة، هو تعليم لا ينمي المهارات ويكشف الملكات ويشجع على الإبداع والتميز ولكنه تعليم يحارب الاختلاف والخروج عن المألوف وينتج قوالب جامدة من الفكر.
إن معركة إتاحة التعليم للجميع هي معركة جوهرية لأي تغيير وأي تقدم. انظر إلى أي دولة متقدمة تجد التعليم على قائمة أولوياتها وانظر إلى أي دولة متهاوية تجد التعليم قد سبقها إلى الهاوية.