إبراهيم عوض يكتب: مصر ليست كوريا الشمالية!
هذا المقال بقلم إبراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
في يوم واحد من الأسبوع الماضي خرجت الصحف الصباحية تحمل نبأين يتعلقان بعلاقات مصر الخارجية، والدبلوماسية منها تحديدا. النبأ الأول كان عن تعبير الحكومة المكسيكية في رسالة موجهة إلى السفارة المصرية في مدينة المكسيك عن عدم رضاها على عدم تعاون السلطات المصرية معها في إجلاء حقيقة ما حدث عند مقتل السياح المكسيكيين في الصحراء الغربية في سبتمبر 2015 وفي تحديد المسئولين عن مقتلهم وإنزال العقوبة بهم. النبأ الثاني كان عن استدعاء السفير المصري في برلين إلى وزارة الخارجية الألمانية وإبلاغه بشعور الحكومة الألمانية بالصدمة من جراء التعامل مع مكتب مؤسسة فريدريش ناومان في مصر واضطرار هذه المؤسسة إلى العمل من عمّان بدلا من القاهرة. فريدريش ناومان مؤسسة لحزب الديمقراطيين الأحرار، وهي واحدة من المؤسسات المرتبطة بالأحزاب الألمانية التي تموّلها الدولة في ألمانيا لتعمل في مجال التعاون الدولي مع الحكومات والمجتمعات المدنية في الدول النامية.
الخبران يستحضران بشكل مباشر إلى الأذهان استدعاء السفير الإيطالي في القاهرة للتشاور في العاصمة الإيطالية على خلفية الأزمة الممتدة المترتبة على اختفاء الباحث الإيطالي جوليو ريجيني في 25 يناير الماضي ثم العثور عليه بعدها بعشرة أيام مقتولا بعد تعذيبه، والاستدعاء للتشاور من الإجراءات الأولية المعبرة عن عدم الارتياح لحالة العلاقات بين الدولة التي يمثلها السفير والدولة المعتمد فيها هذا السفير، وهو في هذه الحالة كان بسبب استياء الحكومة الإيطالية من عدم تعاون النيابة العامة المصرية مع قرينتها الإيطالية في التحقيقات بشأن مقتل الباحث الشاب.
***
الأزمات الدبلوماسية مع المكسيك وألمانيا وإيطاليا يمكن النظر إليها على مستوى العلاقات الثنائية ولكن يمكن اعتبارها أيضا على مستوى النظام الدولي والقواعد الحاكمة للعلاقات بين أطراف هذا النظام من دول وفاعلين من غير الدول، سواء كان هؤلاء الفاعلون منظمات غير حكومية أو شركات دولية كبرى أو الأجهزة الإدارية للمنظمات الدولية. التحليل على المستويين، ومعهما المستوى الإقليمي الذي تندرج فيه كل من الدول الثلاث، متداخل.
على المستوى الثنائي، المكسيك دولة بعيدة عنّا، وليست الحياة في مصر متوقفة على حسن العلاقات معها على الرغم من أن للمكسيك استثمارات في بلادنا. ولكن المكسيك واحدة من أكبر دولتين في أمريكا اللاتينية مع البرازيل من حيث الوزن الاقتصادي والسكاني ومعهما النفوذ السياسي. والمكسيك واحدة من أعضاء مجموعة الدول العشرين التي تجتمع على كافة المستويات دوريا للتباحث بشأن الاقتصاد العالمي وقضاياه وتعمل على تحديد وجهته، بل ولقد صارت المجموعة تتباحث أيضا بشأن المسائل السياسية الرئيسية التي تعرض للنظام الدولي. الصين ترأس مجموعة العشرين في العام 2016 الجاري، ولقد مارست الحق الممنوح للرئيس الدوري للمجموعة فدعت مصر لحضور كافة اجتماعاتها خلال العام وقبلت مصر الدعوة وهي تحضر الاجتماعات منذ بداية العام، ولقد خرجت الصحف القاهرية في نفس الأسبوع الماضي تعبِّر عن الاعتزاز بحضور اجتماع قريب للمجموعة على المستوى الوزاري باعتبار أن ذلك علامة على الاعتراف بالمكانة الهامة لمصر في النظام الدولي. رئيس الجمهورية من المفترض أن يحضر قمة مجموعة العشرين في شهر سبتمبر القادم. المكسيك دولة يعتد بها في النظام الدولي.
ليست ثمة حاجة للإشارة إلى أهمية ألمانيا فهذا معروف لكافة القراء. يكفي فقط التذكير بأن الاقتصاد الألماني هو رابع اقتصادات العالم وألمانيا هي القوة الكبرى في أوروبا بلا منازع، وهي ذات التأثير الذي لا يقارن به تأثير غيرها من الدول الأعضاء في تحديد توجهات الاتحاد الأوروبي وسياساته. العلاقات متعددة بين البلدين والتوريدات الألمانية لمصر شملت كافة المجالات، ومصر عقدت في العام الماضي صفقة هائلة في مجال توليد الكهرباء مع إحدى الشركات الألمانية الأكبر في العالم، وهي صفقة كانت بمباركة من الحكومة الألمانية ومما استدعى زيارة من رئيس الجمهورية لألمانيا ومستشارتها. لا يمكن لبلد بالوزن السكاني لمصر، يتطلع إلى نمو اقتصاده وإلى التنمية، أن يستغني عن علاقات تفاهم سلسة مع ألمانيا.
***
إيطاليا واحدة من دول مجموعة الدول المصنعة الثمان وهي مؤسسة للتكامل الأوروبي الذي وصل في الوقت الحالي إلى شكل الاتحاد الأوروبي، وهي على مرّ تاريخها كله دولة متوسطية بامتياز تعير حوض البحر المتوسط والدول الواقعة على سواحله الأولوية في علاقاتها الدولية وهو ما جعل علاقاتها بمصر وطيدة على مرّ العصور وأيا كانت الأنظمة السياسية في البلدين. وإيطاليا هي الشريك الاقتصادي الأول لمصر والعلاقات معها متشعبة، منها ما يتعلق باكتشاف شركة إيطالية لحقل نفط هائل في البحر المتوسط قبالة الساحل المصري وهي تستعد لاستخراج النفط منه واستغلاله. وإيطاليا كانت قبل فرنسا أول المتحمسين في الاتحاد الأوروبي لترتيبات الحكم الحالية في مصر وهي تشترك معها في منظورها للأزمة الليبية وحلولها الممكنة. إيطاليا دولة حيوية بالنسبة لمصر اقتصاديا وسياسيا، وهي مع ألمانيا وفرنسا محورية في تحديد علاقات الاتحاد الأوروبي بمصر بل وبأي دولة.
لا بدّ من الحرص على علاقات ثنائية صحية مع إيطاليا وألمانيا، والمكسيك كذلك، ولا يجب الاعتقاد بأن للمصالح الاقتصادية نفس القيمة بالنسبة لأطرافها وذلك لسببين، الأول أن مثل إيطاليا وألمانيا بلدان ذات أنظمة سياسية تعددية مفتوحة تمارس الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ووسائط الاتصال والرأي العام عموما فيها الضغط على حكوماتها من أجل أن تدافع عنها وعن القيم التي تنتظم بها مجتمعاتها وتمنحها الشرعية. مقتل الباحث الإيطالي بعد اختفائه وتعذيبه ليس مما تستطيع الحكومة الإيطالية السكوت على عدم إجلاء الحقيقة فيه، ومؤسسة فرديدريش ناومان هي مؤسسة حزب الديمقراطيين الأحرار الذي كان عضوا حتى سنوات قليلة في الائتلاف الحاكم وفي نهاية المطاف، ما لقته المؤسسة في مصر شبيه بما حدث منذ أقل من خمس سنوات لمؤسسة كونراد أديناور، مؤسسة الحزب الديمقراطي المسيحي، حزب المستشارة الألمانية. أما السبب الثاني فهو أن المصالح الاقتصادية ليست متوازنة بين أطراف العلاقات الاقتصادية المصرية الأوروبية سواء كانت على مستوى كل من الدول الأعضاء أو على مستوى الاتحاد الأوروبي بمجموعه. في سنة 2014، الاتحاد الأوروبي كان يمثّل 31,4 في المائة من التجارة الخارجية لمصر، بينما لم تمثّل مصر إلا 0,8 في المائة من التجارة الخارجية للاتحاد الأوروبي. من منظور اقتصادي، لا وجه للمقارنة بين أهمية التبادل التجاري بالنسبة لكل من الطرفين.
***
على مستوى النظام الدولي والقواعد الحاكمة للعلاقات بين أطراف هذا النظام من دول وفاعلين من غير الدول، يلفت النظر أن الأزمات الدبلوماسية الثلاث تتعلق بالتعاون الدولي. التعاون الدولي هو صلب النظام الدولي المفتوح، وهو الذي اشتركت مصر في إرساء قواعده عند إنشاء منظمة الأمم المتحدة، ثم في ترسيخها وتطويعها لمقتضى المتغيرات التي طرأت على النظام الدولي في العقود السبعة الماضية. قصر مفهوم التعاون الدولي على تلقي المنح والقروض هو تحريف له وتشويه.
في حالتي المكسيك وإيطاليا، الأزمتان بشأن التعاون في التحقيقات وبالنسبة لألمانيا فالأزمة بخصوص مؤسسات التعاون الدولي فيها وتعاونها مع منظمات المجتمع المصري. في الحالات الثلاث، وبشكل أو آخر، لجأت الدولة في مصر إلى الاحتجاج في عدم التعاون بضرورات الحفاظ على "الأمن القومي". المرء يتساءل هل مصر وحدها الحريصة على "أمنها القومي"؟ هل الدول الأخرى التي تتعاون مع غيرها، وعندنا أمثلة في نفس عالمنا العربي من الأردن وتونس والمغرب، وعلى الرغم من تحفظات على قواعد عمل الأنظمة السياسية للبعض منها، هل كل من هذه الدول مستهترة بأمنها القومي؟
حجة "الأمن القومي" بشأن التعاون الدولي في نظام دولي مفتوح تنمّ عن ضعف في الثقة بالذات وبالمواطنين بل وللأسف عن شعور بالدونية إزاء نظام دولي لا قبل لنا بالتعامل معه بالقواعد التي اشتركنا نحن في رسمها له. الاستغراق في هذه الحجة والتمادي فيها يؤديان إلى انتفاء التعاون الدولي والانغلاق في وجه النظام الدولي. المرء يتساءل ماذا كان يصبح مصير حجر رشيد في القرن التاسع عشر لو أن حجة "الأمن القومي" رفعت في وجه شامبليون ومنع من التفحص في الحجر وفك "أسرار" اللغة المصرية القديمة.
***
الانغلاق في وجه النظام الدولي هو صنوٌ وضرورةٌ لإغلاق المجال العام في النظام السياسي الداخلي. ولكن هذا وذاك مسعى مصيره الفشل. مصر ليست كوريا الشمالية. مصر في القلب من النظام الدولي، لا يمكنها الانعزال عنه برفض التعاون الدولي. هي تحتاج إلى النظام الدولي تجارةً وسياحة واستثمارا وعلماً وتكنولوجيةً، ومصر والنظام الدولي هامان بالنسبة لبعضهما البعض سياسياً.
الجهد يبذل هباءً والوقت الثمين يضيع على البلد والناس. بدلا من ذلك، على السلطة أن تسرع بتخصيص الجهد والوقت لكي تفتح المجال العام وتنمِّي المشاركة فيه في الداخل، ولكي تتعاون، بثقة في نفسها وفي قدرات مصر، في الخارج.
الانغلاق ليس ممكناً. ستعاود مصر الانخراط في نظام التعاون الدولي من أجل مصلحة المصريين وسيكون في ذلك نصر لهم.