إبراهيم عوض يكتب حول "مسؤولية الدولة" في مصر عن تفجير البطرسية
هذا المقال بقلم إبراهيم عوض، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.
اختلطت مشاعر الحزن بالغضب بالتنديد بالتقصير الفادح للأمن في الاضطلاع بمسئولياته في ردود فعل الرأي العام على تفجير المصلّيات والمصلّين الخاشعين في الكنيسة البطرسية أثناء قداس يوم الجمعة 9 ديسمبر. اتجاه في الرأي ساد في الصحافة المسماة بالقومية وفي كل البرامج التلفزيونية تقريباً ركّز على جبن الجريمة، وعلى خساسة الإرهاب وعدم تورعه عن ارتكاب أبشع الفظائع ضد المواطنين، وعلى اعتدائه المستمر على الدولة. هذا الاتجاه اهتم أيضاً بإبراز إسراع الدولة على أعلى مستوياتها إلى تكريم من استشهد في التفجير والعناية بضحاياه من الجرحى، وإلى الكشف عن مرتكبي الجريمة، وإلى إعادة التأكيد على متانة الوحدة الوطنية.
اتجاه ثان في الرأي نظر إلى الجريمة في إطار فكري أوسع. هذا الاتجاه شدّد على أن هناك تيار عالي الصوت، ذا نفوذ وامكانيات، هو التيار السلفي، لا يكفّ عن بث البغضاء ودعوة من يستمعون إلى الناطقين باسمه إلى كراهية الملايين من المصريين، هم الأقباط، وازدراء دينهم، والعجب هو أن هذه الدعوة مصحوبة بزعم السمو الأخلاقي لمن يمارس الكراهية والازدراء! أصحاب هذا الاتجاه الثاني في الرأي يعتبرون، ومعهم كل الحق في ذلك، أن دعوات البغض والكراهية والازدراء تهيء البيئة التي تفرز الإرهابيين، وهم يطالبون بإغلاق المجال المفتوح على مصراعيه أمام التيار السلفي والذي يهدد بخطابه التكامل الوطني المصري وسلامة الوطن، في ظل تجاهل من أولئك الذين لا يكفون ليل نهار عن التشدق بضرورة صيانة "الأمن القومي". هذه المطالبة تعني ضمناً أن على الدولة مسئوليةً عن فظيعةِ الكنيسة البطرسية، مسئوليةٌ هي تتغافل عنها ولا تضطلع بها.
إلّا أن ثمة اتجاهاً ثالثاً في الرأي يذهب إلى أبعد من ذلك في تفسير المسئولية عن تفجير الكنيسة البطرسية والجرائم الطائفية المتكاثرة في العقود الأخيرة، بل وعن انتشار كل دعاوى الفرقة والتمييز والانقسام والكراهية. لدى أصحاب هذا الرأي، المسئولية هي مسئولية الدولة، ليس فقط لقصورها الأمني وبسكوتها عن جريمة هي خطاب الكراهية، وإنما بمحاربتها المستمرة منذ عشرات السنين للتنوع والاختلاف والتعدد في النظام السياسي.
العنف لا بدّ أن يصحب أي رفض للتنوع والاختلاف والتعدد في النظام السياسي وأن يكون مصاحباً له. التنوع والاختلاف والتعدد موجودون في المجتمع، فإن أنت أردت أن يكون النظام السياسي كتلة واحدة مصمتة، تحت دعاوى تجميع القوى وعدم التبذير في أي جهد، فسيظهر آخرون يحاكونك ويعملون على القضاء على التعدد والتنوع الموجودين في المجتمع. قد يقتصر هدف الدولة في الأصل على القضاء على التنوع والاختلاف والتعدد السياسيين، ولكنها وهي تفعل ذلك تهيء المناخ لمن يتصورون مجتمعاً يكون هو الآخر كتلة مصمتةً. وكما أن الدولة نجحت بمجرد امتلاكها لأدوات العنف المشروع، وأحياناً بممارستها الفعلية للعنف، مشروعاً أو غير مشروع، في جعل النظام السياسي كتلة مصمتة، فإن الراغبين في القضاء على التنوع والتعدد في المجتمع سيمارسون العنف لتحقيق مرادهم، ولأن هذا المراد مناف للواقع ولطبيعة تجمعات البشر، فإنهم سيزيدون من جرعات العنف وأشكاله حتى تعمّ الفرقة ويتفسخ المجتمع. وإن كانت الدولة قد نجحت في جعل النظام السياسي المؤسسي كتلة مصمتة بدعاوى التوحد "للحفاظ على الأمن القومي" أو للإسراع بتحقيق التنمية، التي لا تتحقق، فإن دعاة جعل المجتمع كتلة مصمتة يقدمون حججاً ينسبونها إلى الدين ويتصورون أنهم يمنحونها بذلك سموّاً أخلاقياً بينما هي في حقيقتها الدنوّ الأخلاقي ذاته.
***
أي مجتمع هذا عرفه تاريخ البشر كان كل من فيه من عرق واحد، وعلى دين واحد، وعلى رأي سياسي واحد، وذا مصلحة اقتصادية واحدة؟ تصوّر مثل هذا المجتمع ضرب من الهذيان. ولأنه لا يمكن أن يتحقق مثل هذا المجتمع بشكل سلمي في الواقع، فإن من يهذي به يلجأ إلى العنف لتحقيقه. ولأن الأمر يتعلق بالدين تحديداً، فلنتساءل، بافتراض تحقق الوحدة الدينية، فماذا عن الاختلافات العنصرية والعرقية واللغوية، بل وماذا عن التفسيرات المختلفة لنفس النص الديني. عند "أهل السنّة والجماعة"، كما يحلو للسلفيين أن يتميزوا عن غيرهم من المسلمين، ماذا هم فاعلون بالتفسيرات المختلفة لأبي حنيفة، والشافعي، وابن مالك، وابن حنبل؟ هل يعبئون الناس غدا ضد متبعي هذا المذهب أو ذاك لأنهم يرون فيه خروجاً على "صحيح الدين" كما يروق لهم؟
في مصر، رفض التنوع والاختلاف سياسياً ودينياً متلازمان. الوجود الرمزي وشبه الشكلي، مع استثناءات لا ريب فيها، للمواطنين الأقباط في مؤسسات النظام السياسي التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وفي المواقع الأساسية للجهاز الإداري للدولة يضفي "شرعيةً" على ملاحقتهم في المجتمع وازدراء عقيدتهم والتمييز ضدهم بل، والصراحة صارت واجبة تماماً الآن، لاضطهادهم أحياناً كما نرى في قرى تحرق فيها كنائسهم، ويمنعون من الصلاة في غيرها، حتى يطردون من هذه القرى بمباركة ممثلين للدولة التي يشح حضورهم فيها.
سبقت الدعوة في هذه المساحة إلى صياغة سياسة لتحقيق المساواة الفعلية بين المواطنين في كافة المجالات على أن تكون هذه السياسة أفقية تشمل اجراءات في كل من السياسات الكلية والقطاعية. غير أن حتى ذلك ليس كافياً، بل إنه فكرة قد لا تقبلها بسهولة دولة تضيق بالتنوع، وتحارب التعدد حرباً منظمةً وممنهجةً منذ عشرات السنين، بل إنه فكرة قد تجد فيها الدولة تناقضاً مع نظامها السياسي ومع المنطق الذي يقوم عليه هذا النظام. غير أن ذلك لا يعني أن الخطأ في المساواة الفعلية بل إن الخطأ في منطق النظام.
المسألة الطائفية هي نتيجة غير مباشرة لانغلاق النظام السياسي وقعوده عن استيعاب كل من هو، وما هو، غير مألوف في نظرة من يقبعون في مركزه إلى العالم والحياة والعلاقات بين البشر، ويتصورون أن الاصطفاف واستنساخ نفس المواطن 90 مليون مرّة، وهو بالمناسبة، مواطن مطيع يقبل بصحة ما يقال له ويفعل ما يؤمر به، يتصورون أن هذا الاصطفاف وهذا الاستنساخ هما اللذان سيؤديان إلى رفعة الوطن وتحقيق مصالح الشعب. المدهش هو أن هذا هو بالضبط المنهج الذي تحكم به مصر منذ عشرات السنين ولم يفد في حل أي من مشاكلها الداخلية أو الخارجية، السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، بل إنه أدّى إلى تفاقمها كلها. ولنسرع بالقول بأن الفشل ليس مردّه أن الاصطفاف والاستنساخ لم يكونا كاملين وأن مزيدا من التضييق مطلوب لكي يصبح الاصطفاف والاستنساخ تامين. العيب والآفة هما في فكرة الاصطفاف والاستنساخ نفسيهما.
***
نصل من ذلك إلى أن المسألة الطائفية، ومعها المسألة السياسية، وهي مسألة كفاءة نظام الحكم، والمسألة الاقتصادية، وهي مسألة انتاج السلع والخدمات وتوزيعها، والمسألة الاجتماعية وهي مسألة التفاوت بين المواطنين وإعادة التوزيع لمعالجة هذا التفاوت، هذه المسائل كلها مترابطة وهي ناتجة عن العيب الخلقي في النظام السياسي، عيب رفض التنوع والاختلاف والتعدد. غير أن للمسألة الطائفية خطورتها الخاصة بها لأنها تتعلق بحياة مواطنين وكرامتهم وحقوقهم، من جانب، ولأنها تؤثر في التكامل بين مكوِّنات المجتمع وفي الاندماج الوطني وفي السلام الاجتماعي وبالتالي في سلامة الوطن، من جانب آخر. ولا يمكن لمجتمع أيا كان، وليس معروفاً أي مجتمع سوّى مسائله السياسية والاقتصادية والاجتماعية واستطاع أن يحقق التنمية لأعضائه ومن أجلهم، وهو يعاني من مسألة طائفية في القلب منه. ملاحقة المواطنين الأقباط ليست فقط جريمة بغيضة ضدهم، وإنما هي ترتبط بمجمل أوضاع المجتمع المصري وإمكانية انتشاله من مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا يكف عن الغوص فيها والابتعاد في أعماقها كل يوم.
تعدد الأفكار بشأن القضايا التي تعرض للمجتمع، وتنوع الزوايا التي ينظر منها إليها، واختلاف الأفكار حولها، ينتج ثراء يمكِّن متخذي القرار من اختيار أفضل البدائل المتاحة. منهج التوحد والاصطفاف منهج فقير قاصر.
الاحتفاء بالاختلاف وبالتنوع وبالتعدد، وليس فقط قبولهم على مضض وكأنهم قدر محتوم، يجب أن يكون في قلب النظام السياسي. إنه الطريق الوحيد لنزع فتيل المسألة الطائفية ولبناء مجتمع متصالح مع نفسه، يحل مشكلاته العديدة والمعقدة، ويخطو بثبات على طريق التقدم.