جمال خلف القضبان.. سجينات يضعن مستحضرات التجميل داخل الزنزانات
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- كانت السنة الفائتة قاسية على السجينة جويس بيكينو التي تبلغ من العمر 28 عامًا، داخل المرفق الإصلاحي كافي كريك "Coffee Creek Correctional Facility" في ويلسنفيل، في ولاية أوريغون الأمريكية.
وقالت بيكينو لـCNN إنه لم يكن هناك مجال للتباعد الاجتماعي، الأمر الذي تسبّب بموت العديد من السجناء. كما تأجلت جلسة الاستماع الخاصة بها. ورغم ذلك، كانت بيكينو تضع مسحوق الأساس التجميلي على وجهها، وظلال العيون على جفنيها، وتحدّد عيناها بالكحل، إذ أوضحت: "كان ذلك يشعرني بالراحة، وأني كائن بشري حقيقي، ولست رقمًا"، مضيفة أنّ "هذه المستحضرات التجميلية البخسة الثمن تخرجني من واقعي. هذا كل ما لديّ فأستخدمه".
وعلى بعد 1126 كيلومترًا جنوبًا، تتبع السجينة سوزان فيرغاسن روتينًا جماليًا داخل سجن كاليفورنيا المركزي للنساء "Central California Women’s Facility" في مدينة تشاوتشيلا الأمريكية، إذ قالت لـCNN: "الاهتمام بشعري وأظافري هو عناية ذاتية"، مضيفًة: "كلّ منا مريض... لكنّ القيام بذلك يشعرني بأنّي على ما يرام"، لافتة إلى أنّ سلسلة الموارد المرتبطة بالمستحضرات التجميلية واجهت مشاكل خلال الجائحة، ما انعكس على نقص هذه المواد في متاجر السجن.
وقالت جينيفر فولن-كاتز المديرة التنفيذية في جمعية جون هاوارد التي تراقب السجون لـCNN، إنّ المستحضرات التجميلية تمنح العديد من السجينات شعورًا بالراحة. إذ يساعدهنّ التبرّج في الحفاظ على نوع من الهوية، هنّ المجردات من الحرية، والأصدقاء، والعائلة، وتقديم أنفسهن بالطريقة التي يخترنها بعيدًا عن قوانين اللباس الصارمة المفروضة داخل السجن.
ولفتت فولن-كاتز إلى أنّ "مسارات النساء في إطار نظام العدالة الجنائية، مختلفة عن تلك التي يتّبعها الرجال، بالإضافة إلى أن حاجاتهنّ مختلفة جدًّا". وأشارت إلى أنّ نحو 86% من النساء في السجون الأمريكية تعرّضن للاعتداء الجنسي في مرحلة ما من حياتهنّ، و75% منهنّ يعانين من مشاكل في الصحة العقلية، المتلازمة مع تعاطي المخدرات والسلوك الإكراهي.
ورغم الفوائد النفسية المحتملة، إلا أن الحصول على مساحيق التجميل داخل السجون كان ممنوعًا. إذ يُنظر إليه كنوع من التفاهة أو الترف. وقد رأى المعارضون لاستخدامها أنّ السجينات لا يستحققن هكذا مكافآت. وقد مُنعت هذه المستحضرات في سجون نيويورك الأمريكية حتى عام 1920، وفي سجون نيبراسكا الأمريكية حتى عام 1924، وفي سجون المملكة المتحدة حتى عام 1946، وفي السجون الفرنسية حتى عام 1972، حيث تمّت الموافقة على استخدام أحمر الشفاه والبودرة على أساس أنّ "حرمان النساء من استخدام مساحيق التجميل قد يؤدي إلى إهمالهنّ لنظافتهنّ الشخصية وله تداعيات نفسية"، وفق ما نقلت صحيفة أمريكية عن سلطات فرنسية.
وفي عام 1988، حاول قسم الإصلاح في ولاية فيرجينا الأمريكية منع مساحيق التجميل بحجة احتمال تمرير الممنوعات عبرها. واحتجّت باتريسيا ل. هافمن، آمرة مرفق إصلاحي في مقاطعة فلوفانّا الأمريكية على هذا الإجراء. وقالت لصحيفة "واشنطن بوست" في ذلك الوقت: "نحن نمنح هؤلاء النساء الفرصة حتى يتعاطين على نحو أفضل مع العالم، وجزء من ذلك يتعلّق بمظهرهنّ". وقد تمّ التراجع عن التحفظ على استخدام المساحيق.
وأشارت فولن-كاتز إلى أنّ "عدم منح الناس الفرصة حتى يهتموا بمظهرهم، هو أسلوب إضافي يهدف لتجريدهم من إنسانيتهم وجعلهم يشعرون أنهم عديمي القيمة". وقد اعتبرت أن وضع قيود على استخدام مساحيق التجميل ليس إلا مثالًا آخر على تخطي السجون لحدودها. وأوضحت أنه بذلك "ننتقل من مفهوم الإصلاح إلى العقاب. إذ لطالما كانت السيطرة على النساء في صدارة نظام السجون".
الحاجة أمّ الاختراع
على مرّ العقود، لجأت السجينات المحبطات إلى مقاربات ابتكارية للحصول على مساحيق التجميل.
وفي عام 1920، أزالت النساء داخل سجن هولواي في إنكلترا قطع الدهان من جدران غرفهن وقمن بطحنها ثمّ استخدمنها كبودرة للوجه، ورطّبن الأوراق الحمراء اللون لاستخدامها كأحمر شفاه.
وفي عام 1920، استخدمت النساء داخل سجن ولاية نيو جيرسي الأمريكية خلسة أوراقًا مزّقنها من كتب مكتبة السجن للفّها وتصفيف شعرهنّ بها، كما استخدمن قطعًا من الخشب التي أصبحت فحمًا حتى يحدّدن حواجبهنّ، بحسب تقرير نُشر في جريدة محلية.
وفي عام 1950، أصبح ورق الشمع عند اكتشافه، مرغوبًا بشدّة، لأنه يمكن تذويبه واستخدامه لتقوية الشعر، أو إعطائه رونقًا.
وفي الستينيات، استعانت السجينات بقطع من لمبات الإضاءة المكسورة لقصّ شعرهنّ قصة رجالية والتي كانت ممنوعة حينها.
وعلّقت فولن-كاتز على أنّ هذه الاختراقات المصنوعة يدويًا لم تفاجئها إذ "لا شيء كالحرمان يولّد الإبتكار">
ويعتبر الباحثون أن الحصول على مساحيق التجميل يقلّل من العنف بين السجينات، وهي ظاهرة مرتبطة بالشعور المتعاظم بتقدير الذات الذي قد تستقيه السجينات من الاهتمام بمظهرهنّ. وكشفت الدراسات أنّ السجينات اللواتي يتمتّعن بحسّ أكبر للاهتمام بأنفسهنّ اندمجن على نحو أفضل في المجتمع، بعدما أمضينا فترة عقوبتهنّ.
صفوف تجميليّة
وغالبًا ما لعبت التأثيرات الخارجية دورًا في حصول السجينات على مستحضرات التجميل. وفي عام 1970 في مدينة شيكاغو الأمريكية، استحدث المليونير الخيري دبليو كليمان ستون مدرسة الجاذبية داخل السجن. وقال لمجلة "سيبيا" حينها: "سنجعل هؤلاء النساء يعتقدن أنهن يتمتعن بسحر خارجي، ما يمكنهنّ بعد ذلك من العمل على تطوير سحرهنّ الداخلي". وهذه المبادرة كانت دولية. وفي عام 1973، قال مساعد اجتماعي ألماني لوكالة "رويترز" إن أحمر الشفاه وطلاء الأظافر ساعد السجينات على "تخطي شعورهنّ باللامبالاة والاستسلام".
ويعيد نمو المدارس التجميلية في السجون تشكيل المفاهيم الدائرة حول مستحضرات التجميل. وكان هدف هذه المدارس مزدوجًا أي تعزيز احترام الذات لدى السجينات، وتزويدهنّ بمهارات مهنيّة مطلوبة في سوق العمل.
ودافعت آنا أم. كروس، مفوضة الإصلاح في مدينة نيويورك الأمريكية المعيّنة عام 1954، عن حصص التجميل. وقالت إن أعمال التجميل شكلت تمهيدًا حيويًا للتوظيف. وفي عام 1955، قدّمت الولايات المتحدة ترخيصات لحوالي 500000 خبير تجميل، ويُعدّ ذلك قفزة كبيرة، بعدما كان عدد المسجلين عام 1920، 33246 مصففًا للشعر والأظافر (لم تكن مهنة التجميل متخصصة في ذلك الوقت كما هي اليوم). ومنذ ذلك الحين، ثبت أن السجينات سابقًا اللواتي حصلن على وظائف في إمكانهنّ التطوّر فيها، تمكنّ من الاندماج في المجتمع على نحو أسهل، وسُجّلت لديهنً معدلات أقل لمعاودة ارتكاب الجرم.
وتضمنت إصلاحات كروس المبكرة تجديدًا لسجن النساء "Women’s House Detention"، وهو مبنى كئيب يشبه القلعة في قرية غرينتش. وتم تجديد الزنازين داخله وطلاء القضبان باللون الوردي الباستيل. أمّا فلسفتها فتقوم على أن تحسين البيئة يشكّل أرضيّة متينة لإحداث التغيير.
وبات تواجد مدارس التجميل داخل سجون النساء مألوفًا اليوم. وقالت كريستي لوثر، التي أسست مدرسة التجميل داخل مركز مابيل باسيت الإصلاحي في ولاية أوكلاهوما الأمريكية لـCNN: "لدينا معدل صفري لمعاودة ارتكاب الجريمة". وأشارت إلى أنّ "85% من خريجينا الآن يعملن في صالونات تصفيف الشعر، وتبوّأت العديد منهنّ مناصب إدارية." لكنّها لفتت إلى أن الجائحة أبطأت التطوّر، إذ أنه في عام 2020، خسرت طالباتها 247 يومًا من الدراسة. وقالت: "لقد دُمّرن لأنهنّ يكتسبن قوة داخل الصف". وتابعت أن "القمصان الوردية التي ترتديها السجينات المسجّلات في هذه الحصص تميّزهنّ عن البيئة ذات الزيّ البرتقالي الموحّد التي يتواجدن فيها".
ولم يشكّل الإحجام الطويل الأمد عن تزويد السجينات بمستحضرات التجميل عنصر مفاجأة، إذا نظرنا إلى عدد المرات التي يتم فيها تجاهل احتياجات النظافة الأساسية الخاصة بهنّ. إذ تدفع النساء مقابل الحصول على الفوط الصحية التي تقمن باستخدامها خلال الدورة الشهرية في غالبية السجون الأمريكية، حتى أنّهنّ يخيّرن أحيانًا على نحو مهين، بين الضروريات الصحية أو الاتصال بأحبائهن.
وأوضحت فولين-كاتز أنّ هذا التدمير البسيط للكرامة يُظهر القوة التي تمارسها إدارة السجون على أجساد النساء. وأضافت أنّ "مستحضرات التجميل ليست حاجة صحية أساسية، لكن في نظام يجرّد الناس من هويتهنّ، ترتكب السياسات المعتمدة المدمّرة للسجناء خطًأ".