استنساخ المدن في العالم الافتراضي..هذا ما يعنيه ذلك في المستقبل
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- مع ارتفاع أسعار المساحات في مدننا، وتوقّع عيش غالبية سكان العالم في مناطق حضرية خلال العقود القليلة المقبلة، بات هامش التجربة والخطأ أقل عندما يتعلق الأمر بالتخطيط الحضري، وخصوصًا أنّ القرارات المتخذة اليوم تتمتع بآثار مهمة في المستقبل.
لكن ماذا لو كان ثمة طريقة لاختبار السيناريوهات المختلفة وتحليلها أولاً، حتى قبل وضع حجر الأساس؟ هذا هو التفكير الكامن وراء تقنية "التوائم الرقمية" التي يتم صنعها عن المدن في جميع أنحاء العالم، ضمنًا شانغهاي، ونيويورك، وسنغافورة، وهلسنكي.
وقال أندرس لوغ، أستاذ الرياضيات الحسابية، ومدير مركز المدن التوأم الرقمية في جامعة تشالمرز للتكنولوجيا بالسويد إنّ تقنية "التوائم الرقمية" تأخذ نماذج المدن ثلاثية البعد التقليدية إلى إمكانيات جديدة.
وباستخدام البيانات في الوقت الفعلي والذكاء الاصطناعي، تصبح التوائم الرقمية مرايا افتراضية حية لنظيراتها المادية، ما يوفر فرصًا لمحاكاة كل شيء من البنية التحتية والإنشاءات، إلى أنماط المرور، واستهلاك الطاقة.
حالة اختبار تشاتانوغا
وتقع مدينة تشاتانوغا، التي يبلغ عدد سكانها حوالي 180 ألف نسمة، عند سفوح جبال الأبالاش، وتبعد مسافة متساوية تقريبًا عن المدن الكبرى جنوبًا أي أتلانتا، وجورجيا، وشمالًا ناشفيل، وتينيسي.
وفيما تحظى المناطق الحضرية الأكبر عادة بأكبر قدر من الاهتمام لمشاريعها الرقمية المزدوجة، فإن تشاتانوغا تمثّل حالة اختبار قوية للولايات المتحدة لأن حجمها الأصغر يتيح لها أن تكون أكثر مرونة، وفقًا لما ذكره كيفين كومستوك، المستشار لدى "KCI Technologies"، والمدير السابق لدى "Smart City" في تشاتانوغا.
وعالجت مدينة تشاتانوغا والمتعاونون معها، ضمنًا مختبر "أوك ريدج" الوطني وجامعة تينيسي في تشاتانوغا، القضايا، والمجالات الفردية، من خلال إنشاء مشاريع ثنائية رقمية.
وأُطلق على الأول اسم "CTwin"، وركّز على أحد الطرق الرئيسية في المدينة لفحص استخدام الطاقة المرتبطة بالتنقل من خلال بناء تمثيل رقمي للبنية التحتية لإشارات المرور، وفقًا لما ذكره كومستوك. ويستخدم مشروع آخر قيد التنفيذ أجهزة استشعار وتصوير بالليزر عند التقاطعات لمراقبة حركة المشاة ومقارنتها مع حركة مرور المركبات، حرصًا على السلامة.
وأوضح كومستوك أنّه "إذا عرفنا مكان وجود المشاة عند التقاطع، وعرفنا مكان وجود السيارات عند التقاطع، يمكننا البدء بمحاكاة نشاط وشيك الحدوث، من خلال تتبع المشاة وراكبي الدراجات الذين يغيرون مسارهم تجنبًا للسيارات".
وتابع أنه خلافًا للحوادث الفعلية، فإنه لا يبلّغ في العادة عن الحوادث وشيكة الوقوع. لذا يوفر جمع البيانات عنها معلومات أكثر دقة حول مدى أمان التقاطع، الأمر الذي يمكّنه من معرفة كيفية حل المشاكل.
ولكن، هل يمكن توسيع نطاق هذا النموذج ليشمل مدنًا أكبر؟ أجاب الدكتور فيل ليهتولا، الأستاذ المساعد في جامعة توينتي بهولندا أنّ "المدن الكبرى تعاني من مشاكل أكبر"، مضيفًا: "لكنّ (النموذج) يشمل بعض المشاكل ذاتها التي تواجهها المدن الصغيرة أيضًا.. لذلك إذا قمت بالتخطيط جيدًا، فستكون هناك مخاطر أقل، وستكون تكاليف التشغيل الفعلية للبناء والعمليات الأخرى أرخص. لذلك القيام بتخطيط أفضل يؤتي ثماره".
تغذية التوأم الرقمي
وأشار ليهتولا الذي كان عضوًا سابقًا في مجلس مدينة إسبو، فنلندا، خارج هلسنكي، إلى أنّه عندما اقترح خط مترو جديد، قامت إسبو أولاً برقمنة تخطيط العمليات والبناء.
ويمكن أن تكشف تقنية "التوأم الرقمي" عن الشكل الذي ستبدو عليه الوظيفة النهائية. وأوضح ليهتولا أنه "حتى تتمكّن من إظهار النتيجة النهائية، (للجمهور) مثلًا، لبعض أعمال البناء أو تطوير الأراضي المحتملة، وكيف ستبدو، ومن ثمّ تحصل أيضًا على مزيد من الدقة في التقديرات المتعلّقة بالمزايا، وإمكانية الاستخدام، والقيمة المضافة للمشاريع المختلفة".
وأشار لوغ إلى أن هناك سؤالين أساسيين يجب الإجابة عليهما عند إنشاء مدن بتقنية "التوأم الرقمي"، وهما: "ما الذي يتم تحليله ليلائم الوضع الحالي للمدينة"؟، و"كيف يمكننا توقّع سلوك المدينة"؟
ولفت لوغ إلى مدينة غوتنبرغ، بالسويد، التي أخذت بيانات من مصادر، ضمنًا خرائط الشوارع العادية لإنشاء تقنية توأمها الرقمي. وأضاف لوغ، أنّه "بين البيانات، يمكنك إضافة أمور مثل مقاعد المنتزهات، والغلاف الجوي، والسحب، والماء، ومن ثم تستخدم تلك البيانات الأولية لإنشاء نموذج مرئي لمعرفة أثر المبنى الجديد على أنماط الرياح، أو حتى المزالق المحتملة الكامنة تحت الأرض".
وتابع لوغ أن "غوتنبرغ مبنية على الطين، لذلك يصبح من المهم جدًا نمذجة سلوك الطين. وماذا لو بدأت مشروع بنية تحتية جديد؟ هل سيكون هناك أي خطر محتمل من حفر أو بناء أنفاق جديدة"، مشيرًا إلى أن "مفتاح النجاح يكمن بما أسماه استدامة البيانات، أي التحديثات المتكررة في الوقت الحقيقي التي تغذي التوأم الرقمي لمواكبة التطور المستمر للمدينة المادية. وإلا، فإن نموذج التوأم الرقمي يصبح قديمًا".
وعلى الصعيد العالمي، بدأ الاستثمار في تقنية "التوأم الرقمي" يؤتي ثماره فعليًا. ويقدر تقرير صادر في عام 2021، عن شركة التكنولوجيا العالمية "ABI Research"، أنّ المدن ستوفر 280 مليار دولار بحلول عام 2030، عبر "استخدامها التوائم الرقمية لتخطيط حضري أكثر كفاءة".
وبحسب تقرير آخر صادر عن شركة المحاسبة والاستشارات PwC، يمكن أن تساعد التوائم الرقمية أيضًا بجهود الاستدامة، وهي أحد الأهداف الأصلية لحركة "المدينة الذكية".
بيانات المستقبل
ولفت ليهتولا إلى أنّ المزيد من نقاط البيانات أصبحت متاحة لإعلام النماذج، مع مصادر تتضمّن السيارات ذاتية القيادة، وطائرات التوصيل بدون طيار، ومعدات البناء المجهّزة بأجهزة استشعار ذكية. وأضاف أنه مع زيادة الإمكانات التكنولوجية، تزداد التحديات، خصوصًا فيما يتعلّق بجمع وتخزين وحماية هذا القدر من البيانات.
وقال إنّ فصل مختلف أصحاب المصلحة عن "صوامعهم" الفردية أمر مهم أيضًا، وبالتالي يمكن مشاركة البيانات وجعل جميع جوانب تخطيط المدن أكثر كفاءة.
ووافق لوغ على أنّ التحديات التقنية كبيرة، لأنّ المدن عبارة عن أنظمة معقدة للغاية، موضحًا أن "هذه تحديات اعتدنا عليها كباحثين ومطورين".
ويتطلّع لوغ إلى مستقبل يكون فيه كل شيء "متكاملًا ومتصلًا" بدءًا من صيانة المباني والإنشاءات الجديدة، إلى الطرق وإشارات المرور، ما يسمح لمخططي المدن باتخاذ قرارات ستظل منطقية على مدى عقود.
وأكدّ أنّ "تقنية التوائم الرقمية ستكون في كل مكان، (مثل) النظام الذي يجيب على جميع أسئلتك حول الخطط المستقبلية".