في مومباي منطقة حمراء تعجّ ببائعات الهوى أيضًا.. قصة شارع فوكلاند بصور

نشر
10 دقائق قراءة
امرأة شابة بعدسة ماري إلين مارك. حصلت المصورة الأمريكية الراحلة على ضوء أخضر للدخول إلى منطقة الضوء الأحمر في مومباي في سبعينيات القرن الماضي.Credit: Mary Ellen Mark

دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- لم تستطع ماري إلين مارك نسيان شارع فوكلاند.

كانت المصورة الأمريكية الراحلة معروفة بقدرتها على التعاطي مع أي موضوع أو قضية ترغب بسردها.. بسلاسة، لكن التواصل مع بائعات الهوى في المنطقة الحمراء الشهيرة، الواقعة على هامش مجتمع مومباي، أثبت صعوبته بداية.

محتوى إعلاني

وكتبت لاحقًا في مقدمة كتابها "شارع فوكلاند، بائعات الهوى في بومباي"، وبومباي هو الإسم البريطاني للمدينة التي أصبح اسمها مومباي عام 1995، الصادر عام 1981: "على مدى 10 سنوات حاولت التقاط صور في شارع فوكلاند، وقوبلت بالعدائية والعدوانية في كل مرة". 

وروت في كتابها عن رحلاتها الأولى إلى المدينة الأكثر اكتظاظا بالسكان في الهند، في أواخر ستينيات القرن المنصرم، وكيف"رمتني النساء بالقمامة، والمياه، وقرصنني. وكان الرجال يتحلقون حولي. وتمكّن نشال من أخذ دفتر العناوين الخاص بي، وفي أخرى ضربني رجل مخمور على وجهي. وعليه ما من ضرورة للقول إنّني لم أتمكن من التقاط صور جيدة جدًا".

Credit: Mary Ellen Mark

وقد حظي الكتاب الذي أعيد إصداره أخيرًا ويضمّ بين دفّتيه أكثر من 70 صورة لمارك، بإشادة دولية لتسليطه الضوء على محنة العاملات في مجال الجنس، اللواتي تمّ الترويج لهنّ من قبل القوّادين والقوّادات، وتعرّضن للضرب، وأصبحن عرضة للأمراض. 

وقالت الراحلة مارك لمجلة نيويورك تايمز عام 1987، إنّ الكتاب "كانت الغاية منه التعبير مجازيًا عن مدى صعوبة أن تكون امرأة".

وقالت ميريديث لو، رئيسة مؤسسة ماري إلين مارك، لـCNN، إنّ المصورة الراحلة، التي عاشت حياة عائلية مليئة بالتحديات في شبابها، وجدت نفسها تنجذب نحو الأشخاص الضعفاء وتتواصل معهم.

وأضافت لو: "غالبًا ما يشكل هؤلاء مجتمعات صغيرة، وغالبًا ما تكون من النساء أو الشباب الذين يتم تجاهلهم نوعًا ما، أو لم يلقين الكثير من الاهتمام". ولفتت إلى أنّ هذا على الأرجح، ما جذب مارك إلى العاملات في مجال الجنس في شارع فوكلاند. وأضافت أنّ "الكثير من هؤلاء النساء لم يكن لديهنّ عائلة، لكنهنّ كوّنّ عائلة، ووجدن نساء اعتنين بهنّ واعتبروهنّ أخوات".

كما كتبت مارك بنفسها عن أحد مواضيع صورها في مقدمتها لـ"شارع فوكلاند": "لم تسألني ساروجا أبدًا عن أي أمر شخصي. ولم يفعل أحد منهنّ ذلك. لقد أردن معرفة عمري فقط، ولماذا لا أرتدي حمالة صدر، ولماذا لست متزوجة. أعتقد أنّ سبب تقبّلي أخيرًا أنني كنت عازبًة، ووحيدًة في العالم مثلهنّ. قالت لي إحدى السيدات: نحن أخوات. أنت وأنا مقدّر لنا أن نعيش الحياة عينها. كل ليلة أصلي وأنام وحدي".

بائعات هوى من النيبال ينتظرون زبائنهن في شارع فوكلاند بمومبايCredit: Mary Ellen Mark

الأصدقاء في الأماكن الوضيعة

في عام 1978، عادت مارك إلى شارع فوكلاند. في الليلة التي سبقت بدء مهمتها الممتدة لستة أسابيع لصالح مجلة GEO (وهي مجلة شهرية ألمانية تشبه إلى حد كبير مجلة ناشيونال جيوغرافيك)، رأت حلمًا كانت فيه متلصّصة تختبئ خلف السرير، وتشاهد ثلاث بائعات جنس يمارسن الجنس. استيقظت "مطمئنة إلى حد ما"، وفق ما كتبت في المقدمة، مضيفة "ربما كان حلمي مؤشرًا جيدًا".

بداية، كانت رحلة عام 1978، تشبه إلى حد كبير ما كانت عليه  الرحلة السابقة: فقد شُتِمت ورُميَت بالقمامة عليها أثناء سيرها ذهابًا وإيابًا في الشارع. لكن بمرور الأيام، أثار حضور مارك المستمر اهتمام الناس، ودُعيت للدخول إلى هذه العوالم.

وأوضحت أنه "لم يكن مكانًا مُرحبًا فيه بها، وقد صمدت نوعًا ما على موقفي". وقالت لو لـCNN: "لم تكن عدوانية، لكن أرادت التواجد حرفيًا. إن إصرارها أعطى (الناس في شارع فوكلاند) إحساسًا بالقول: حسنًا، إنها مهتمة بنا ولا تشكل تهديدًا، لم يبدر عنها أمر سيء". 

أولاً، كانت بائعات الهوى في الشوارع الأسرع في مصادقة مارك. غالبًا ما كنّ يجتمعن في مقهى أولمبيا، المكان المفضل للفتيات. كتبت مارك، التي توفيت عام 2015، عن عمر يناهز 75 عامًا: "قضيت ساعات هناك، أشرب الشاي وأستمع إلى القوالي (آيات صوفية إسلامية) وأغاني الأفلام الهندية على صندوق الموسيقى". وكانت رفيقاتها آشا وممتاز، البالغتان من العمر 17 عامًا، وأوشا البالغة من العمر 15 عامًا.

كانت النساء يعملن كبائعات هوى ليلا، ويمارسن روتين حياتهن كربات منازل نهارًا.. كأي امرأة هندية أخرى.Credit: Mary Ellen Mark

وصفت مارك آشا بأنها إحدى أجمل الفتيات التي رأتها في حياتها. لقد كانت يتيمة وكان صديقها، النشال المحلي، يدخل ويخرج باستمرار من السجن. وكتبت: "ذات مرة اختفت آشا مدة أربعة أيام. واكتشفت أنه تم القبض عليها بتهمة الاستدراج، استعنت برجل لدفع كفالتها". وكلما زارت مارك شارع فوكلاند عند الفجر، كانت ترى آشا متقوقعة على نفسها مع إحدى الفتيات الأخريات، تنامان في الشارع. وتابعت: "كنت أنتظر حتى الساعة الثامنة صباحًا، ثم أوقظها، ونتناول الشاي".

وكثيرًا ما تم القبض على النساء اللواتي استدرجن العملاء بأنفسهن، ومن دون أن يدفع عنها قوادة أو قواد الغرامة، وسجنّ. كما كنّ يعانين غالبًا من الجوع والمرض والحرارة، أو كان لديهن أصدقاء نشالين يضربونهن ويأخذون أموالهنّ. 

وكتبت مارك: "يشكلن صداقات وثيقة ويحمين بعضهن بشدة".

آشا كانت تكره أن تكون عاملة في مجال الدعارة، لكنها لم تكن تعلم مهنة أخرى.

وكانت صديقتها المقربة في المجتمع سيدة متحولة جنسيًا تدعى تشامبا، التي بدورها عرفت مارك على العاملات في مجال الجنس في بيت الدعارة، والعديد منهم من الخصيان الذين سمحوا لها بتصويرهم وهم يضعون الماكياج ويستعدون للمساء.

العاملات بالجنس المتحولات يرتدين ملابس في فناء. Credit: Mary Ellen Mark

كانت المجموعة الأكثر تحديًا "فتيات القفص"، حيث يتم عرض النساء في شارع فوكلاند ضمن غرف صغيرة على جانب الطريق تطل من نوافذ ذات قضبان، ويعانين من سوء المعاملة والسخرية بشكل متكرر، غالبًا من العملاء الذين تم تكليفهن بغوايتهنّ. وروت مارك أنه تم اعتبارهن من الطبقة الأكثر وضاعة حتى من قبل بائعات الهوى الآخريات. وأضافت المصورة أنهن كنّ يقمن بوضعيات وإيماءات شنيعة وفاحشة لإغواء العملاء، رغم  أنه حتى الأكثر عدوانية بينهن كانت عرضة للخطر الكبير.

والأمر عينه يسري على القوادات اللواتي يحرسن بناتهن بشراسة. قالت إحداهنّ التي تدير بيتًا للدعارة في شارع فوكلاند، لمارك إنها اختُطفت من قريتها في جنوب الهند عندما كانت تبلغ من العمر 12 عامًا وتم نقلها إلى مومباي. وكانت هذه العاملة السابقة في مجال الجنس ادخرت المال واقترضت تدريجياً ما يكفيها لفتح بيت دعارة خاص بها. 

تعلّقت مارك جدًا بمواضيعها ووجدت أنه من المؤلم أن تقول وداعًا عندما انتهت فترة التصوير. وكتبت: "تعانقت أنا وساروجا، وقدمت لي إكليلًا ضخمًا من الزهور. وبكينا جميعًا"، وأضافت: "النساء لوّحن لي من نوافذهن. مررت بالقرب من الأقفاص، وخرجت بعض النساء لمصافحتي". تتذكر مارك كيف أن تشامبا، السيدة المتحولة جنسيا، "ركضت عبر الشارع لتقول لي: أرسلي لي شعرا مستعارا من أمريكا، يا أختي، وفي كل مرة أرتديه سأفكر بك".

بينما كانت تتناول الشاي الأخير في مقهى أولمبيا، تجمعت أوشا وآشا وصديقات أخريات وبدأت المصورة  بالبكاء. تتذكر مارك قول آشا: "لا يجب أن تبكي. يجب أن تقولي وداعًا ورأسك مرفوعًا وفخورًا ثم تغادرين". ورافقت مارك إلى الشارع كي تأخذ سيارة أجرة وقالت لها: "من الأفضل ألا تنسيني".

Credit: Mary Ellen Mark

مخبأة على مرأى من الجميع

لطالما اهتمت مارك بسرد القصص التي لم يكن ممكنًا سردها بطريقة أخرى، بحسب لو التي تعمل بالتوازي مع مؤسسة ماري إلين مارك، على إعادة نشر وعرض بعض الصور التي يزيد عددها عن 60 ألف صورة من أعمال المصورة. 

ويُقام راهنًا معرض استعادي لأعمالها، يشمل صورًا من شارع فوكلاند، ببرلين، ألمانيا، حتى منتصف يناير/ كانون الثاني. وقال بيل، زوج مارك، لـCNN: "لقد انجذبت إلى قصص من الحافة.. إلى أشخاص لا تعرفهم"، مضيفاً: لقد كانت قادرة على إيصال تلك القصص إلى فهم أوسع في المجتمع. أعتقد أن هذا أمر عظيم حققته".

بالنسبة إلى لو أيضًا، هذا هو سحر التصوير الفوتوغرافي لمارك، امتلاك القدرة على تقريب أطراف المجتمع المنبوذة غالبًا من المنزل. صورها المفضلة من شارع فوكلاند ليست الصور الصريحة، ولكنها تلك التي التقطت فيها اللحظات والعلاقات اليومية. 

Credit: Mary Ellen Mark

لا يزال شارع فوكلاند يمثل المنطقة الحمراء إلى اليوم لكن العالم الأوسع قد تغير بطرق عديدة منذ زيارة مارك في سبعينيات القرن الماضي. في نهاية الطبعة السابقة لكتابها، الصادرة عام 2005، دونت مارك: "اليوم، لا توجد مجلة ترعى مشروعًا مثل "شارع فوكلاند". إن العالم الحقيقي اليومي، في معظمه، لم نعد نراه في المجلات. التصوير الوثائقي الوحيد الذي نراه باتت حكرًا على الحروب والكوارث والصراعات. وأي قضية أخرى تقريبًا استبدلت بتصوير الأزياء والمشاهير".

وخلصت إلى أنه "سيكون الوصول إلى العالم الصريح والشخصي لشارع فوكلاند أكثر صعوبة اليوم لأن الكوكب أصبح متصلاً بالإنترنت وتلفزيون الكابل، وأصبح الجميع أكثر وعياً بقوة وسائل الإعلام. كثيرا ما أتساءل كيف سيكون رد فعل النساء في شارع فوكلاند معي إذا اقتربت منهن الآن. هل سيخفن من تصنيفهن أو إثارة الاهتمام حولهنّ؟ هل سيطلبن مني المال؟ لم يفعلن ذلك من قبل".

نشر
محتوى إعلاني