خاطروا بحياتهم ليتواصل العالم..إليكم قصص أبطال "البريد الجوي"
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- ما هو القاسم المشترك بين شركتي طيران وطنيتين رئيسيتين، وعلامة تجارية أمريكية لبيع الأزياء بالتجزئة، ومؤسسة صناعية كبيرة مدرجة في البورصة، وفيلم سينمائي والعديد من الأعمال الأدبية الحائزة على جوائز؟
والإجابة قد تكون أن جميعها يرتبط بالإرث الاستثنائي لشركة طيران لم تعد موجودة منذ 90 عاماً.
ورغم من وجودها لفترة قصيرة نسبياً، تركت الشركة الفرنسية الرائدة في مجال الطيران في الفترة بين العامين 1918 و1933، أي "الشركة العامة للبريد الجوي"، المعروفة عادةً باسم "البريد الجوي" (Aéropostale)، علامة لا تُمحى، سواء في عالم الطيران المدني أو في الخيال العام.
وفي نهاية الحرب العالمية الأولى، حوّل رائد الطيران الفرنسي بيير جورج لاتيكويير رؤيته إلى واقع بإنشاء رابط جوي منتظم لنقل البريد بين أوروبا وأمريكا اللاتينية.
وتأسست الشركة التي أصبحت تُعرف باسم "البريد الجوي" في نهاية عام 1918 تحت الاسم الرسمي "شركة خطوط لاتيكوير".
وفي العقد الذي تلا ذلك، لم يساهم هذا المشروع بشكل كبير في تعزيز النقل الجوي كخدمة أساسية في أجزاء مختلفة من العالم فحسب، بل أصبح أيضاً مرادفاً للمغامرة والشجاعة. وربما تكون قصة "البريد الجوي" هي آخر قصة ملحمية كبيرة في عصر الاستكشاف.
وبدأ مسار "البريد الجوي" الطويل في تولوز، في جنوب فرنسا. ومن هناك عبرت جبال البيرينيه إلى برشلونة، وتابعت ساحل البحر الأبيض المتوسط الإسباني إلى أليكانتي ثم إلى شمال أفريقيا، التي كانت في ذلك الوقت تحت الحكم الإسباني والفرنسي.
واستمر المسار جنوباً على طول الساحل الأطلسي إلى المغرب، مع عدة نقاط توقف على طول الطريق مثل الدار البيضاء، وأغادير، وكيب جوبي/ طرفاية، ونواذيبو، وسانت لوي، حتى وصل إلى نهايته الأفريقية في داكار، في السنغال.
ونظراً لعدد الطائرات المحدود في ذلك الوقت، تم تحميل البريد بعد ذلك على متن السفن التي كانت تربط جنوب المحيط الأطلسي في أضيق نقطة، بين غرب أفريقيا وشمال شرق البرازيل.
ومن هناك، تولى فرع أمريكا اللاتينية من الشركة زمام الأمور، وقامت الطائرات بنقل البريد على طول الطريق إلى بوينس آيرس وخارجها، وعملت العاصمة الأرجنتينية كمحور انبثقت منه طرق إقليمية متعددة، حيث نقل البريد الجوي عبر جبال الأنديز إلى سانتياغو دي تشيلي، شمالًا إلى باراغواي وجنوباً باتجاه باتاغونيا.
مغناطيس لاستقطاب المغامرين
ولم يكن هذا المشروع لأصحاب القلوب الضعيفة، وبالإضافة إلى مخاطر الطيران في عشرينيات القرن الماضي، والتي كانت مهمة خطيرة وغير مريحة إلى حد ما، كان على الطيارين لدى شركة "البريد الجوي" اجتياز مناطق شاسعة في ظل ظروف مناخية قاسية وخالية من أي بنية تحتية داعمة.
ولكن ربما شكل ذلك جزءاً من عنصر الجاذبية.
وتمكنت شركة "البريد الجوي" من جذب بعض أكثر الطيارين جرأة في ذلك الوقت، أمثال الطيار الفرنسي جان ميرموز، والطيار والكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، إذ لم يكونوا مجرد مغامرين جريئين، بل كانوا أيضاً صانعي كلمات موهوبين. كما أن تخليد رحلاتهم الطويلة والمحفوفة بالمخاطر في سلسلة من الكتب الحائزة على جوائز، والأفلام اللاحقة ساهمت بشكل كبير في الهالة الأسطورية لشركة "البريد الجوي".
وعلى سبيل المثال، حققت رواية "Vol de Nuit" (رحلة ليلية) بقلم الطيار والكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري نجاحاً فورياً عندما نُشرت لأول مرة في عام 1931، وتم تحويل القصة إلى فيلم بواسطة المخرج الأمريكي جون فورد في فيلمه "البريد الجوي" عام 1932، الذي يروي مآثر المؤلف في المسار التشيلي.
وشكلت قمم جبال الأنديز التي يبلغ ارتفاعها 20 ألف قدم عقبة هائلة أمام الطائرات الهشة في ذلك الوقت.
ويروي سانت إكزوبيري في إحدى فقرات الكتاب قصة رفيقه من شركة "البريد الجوي" ويدعى هنري غيوميت، الذي قضى عدة أيام في رحلة ملحمية عبر الجليد والثلج بعد تحطم طائرته على أحد الأنهار الجليدية، وتمكن من الوصول إلى مستوطنة أرجنتينية نائية عندما كان على وشك الاستسلام للبرد والتعب.
وتتبع هذه الملحمة مذكرات بعنوان "Terre des Hommes" (أرض الرجال)، وتُرجمت المذكرات إلى الإنجليزية تحت عنوان "Wind، Sand and Stars" (رياح، ورمال، ونجوم)، وهي تروي تجربة سانت إكزوبيري الخاصة في الطيران وسط الصحراء الكبرى.
وفي تلك الفترة، كان على الطيارين الاعتماد على الملاحة البدائية، وفي كثير من الأحيان، كانوا يتعرضون لخطر نفاد الوقود أو مواجهة صعوبات فنية.
والطيارون الذين كانوا يقومون بهبوط اضطراري في الصحراء يُخاطرون بالقبض عليهم من قبل القبائل البدوية المحلية الذين سيحاولون بعد ذلك الحصول على فدية مقابل تسليمهم.
ويتضمن هذا الكتاب أيضاً تجربة الاقتراب من الموت الخاصة بسانت إكزوبيري، بعد هبوطه في الصحراء المصرية. وتحملّ سانت إكزوبيري ومساعده رحلة صحراوية شاقة حيث كانوا على وشك الموت من العطش قبل أن ينقذهم رجال قبائل البدو.
وينتهي مصير أشهر طياري الشركة، ميرموز وسانت إكزوبيري وغيوميت، بشكل مأساوي داخل قمرة القيادة في السنوات التي أعقبت زوال شركة "البريد الجوي".
واختفى كل من سانت إكزوبيري وغيوميت أثناء خدمتهما في البحر الأبيض المتوسط خلال الحرب العالمية الثانية، في عامي 1944 و1940 على التوالي، على الأرجح بسبب مهاجمة "العدو"، إذ تم تحديد حطام طائرة عُثر عليها بالقرب من مرسيليا في عام 2003 على أنها الطائرة التي كان يقودها سانت إكزوبيري.
وفي غضون ذلك، فُقد ميرموز في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1936، عندما كان يعبر جنوب المحيط الأطلسي، في حادثة نسبها البعض إلى أعمال تخريبية، على الرغم من أن مشكلات موثوقية المحرك ربما كانت السبب الأكثر ترجيحاً.
إرث طويل الأمد
ورغم من أنه ظل مرتبطاً بشكل كبير بصناعة الطيران طوال حياته، واستمر في بناء واحدة من أكبر شركات الطيران في فرنسا، أي "Groupe Latécoère"، التي لا تزال موجودة حتى اليوم، إلا أنه في عام 1927 باع بيير جورج لاتيكويير أعمال البريد الجوي إلى مارسيل بويو لافون، وهو ممول وسياسي فرنسي أطلق عليها اسماً جديداً، وهو "الشركة العامة للبريد الجوي".
وبحلول عام 1930، نمت شركة "البريد الجوي" لتصبح عملية لوجستية ضخمة، تنقل 32 مليون رسالة سنوياً على مدى 17،000 كيلومتر من الطرق الجوية والبحرية امتدت عبر ثلاث قارات.
وفي العام ذاته، قام جان ميرموز، أحد الطيارين الأسطوريين للشركة، بسد الفجوة الأطلسية على رأس طائرة مائية "لاتيكوير 28" محملة بـ 122 كيلوغرامًا من البريد، واستغرقت الرحلة 19 ساعة و 35 دقيقة بين السنغال والبرازيل.
ورغم من استمرار عبور المحيط المنتظم عن طريق السفن، أظهر ميرموز أنه من الممكن أن تصل رسالة من فرنسا إلى سانتياغو دي تشيلي في أقل من أربعة أيام.
ولكن بعد فترة وجيزة من وصولها إلى ذروتها، انطوى طيران "البريد الجوي" فجأة.
وأثرت الأزمة المالية لعام 1929 بشدة على عدم الاستقرار القوي والسياسي في البرازيل والأرجنتين، مما زاد من حدة المشاكل.
وفي عام 1931، رفضت الحكومة الفرنسية طلباً للمساعدة المالية وتم تصفية شركة "البريد الجوي" بعد فترة وجيزة. وتم استيعاب أصولها من قبل مجموعة الشركات التي ستصبح في النهاية الخطوط الجوية الفرنسية.
ومع ذلك، احتفظت الخطوط الجوية الفرنسية بعلامة "البريد الجوي" التجارية، التي استخدمتها في بعض أنشطة البريد والشحن، التي تعمل بالاشتراك مع الخدمة البريدية الفرنسية (La Poste)، حتى عام 2000.
وحصلت "La Poste" بعد ذلك على الملكية الكاملة للشركة، والتي أعيدت تسميتها باسم "Europe Airpost"، قبل بيعها مرة أخرى، هذه المرة لشركة أيرلندية تسمى "ASL Aviation Group"، والتي تدير رحلات ركاب وشحن حتى يومنا هذا تحت علامة "خطوط أي إس إل فرنسا الجوية".
والأكثر من ذلك، ربما بسبب الشخصيات المبهرة للأشخاص المشاركين في تشغيلها والعمل الأدبي الاستثنائي الذي تركوه خلفهم، تجاوزت شعبية "البريد الجوي" حدود عالم الطيران لإلهام تسمية سلسلة متاجر أزياء أمريكية (Aéropostale).