داخل قرية نائية لشعب المايا..مساكن من القش وحقول من الذرة والبطاطس
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تأخذك رحلة على متن طائرة تتسع لـ10 ركاب فقط، من مدينة بليز في بليز بأمريكا الوسطى، فوق الأدغال الخضراء المورّقة، وقمم الجبال الصخرية، وعلى طول البحر الكاريبي النابض بالحياة، حيث تنتشر الجزر المرجانية الفردوسية، قبل أن تهبط في مطار مكون من مدرج هبوط واحد، أي بقعة حمراء مُغبرة وسط قمم الأشجار الكثيفة.
ويقع مطار بونتا جوردا أقصى جنوب مدينة بليز، التي يبلغ عدد سكانها 5 آلاف نسمة.
ورغم أنها نائية، إلا أنّها مدينة صاخبة مقارنة بسانتا كروز، وهي مستوطنة لشعب المايا تقع على بعد 50 دقيقة خلال رحلة داخلية.
وترحب بك أجواء الرطوبة مثل حضن دافئ، وتوفر الحياة البرية الصاخبة في الغابة موسيقى تصويرية متكررة لأصوات العصافير والقرود.
وهنا، في أحضان هذه الغابة، يعيش شعب موبان مايا، وهم من بين 28 مجموعة عرقية من شعب المايا.
وفي بليز، يُعرف نحو 10 آلاف شخص بأنهم من شعب موبان، ويشكلون أقل من 3% من سكان البلاد، لذلك تعد الثقافة محمية بشكل وثيق من قبل شعبها.
وكانت بليز موطنًا لبعض أقدم مستوطنات شعب المايا، الذين يشكلون اليوم ما يقدر بنحو 11% من سكان البلاد.
ويمكن الوصول إلى سانتا كروز عبر طريق وعر غير ممهد يمر عبر الجبال وينفتح على وادٍ صغير.
وهنا، تزرع المجتمعات المتماسكة، التي تعيش في مساكن ذات أسقف من القش، نباتات مثل الذرة والبطاطس والكاكاو.
وبقي أسلوب الحياة كما هو تقريبًا لعدة قرون، بسبب القناعة والظروف، إذ يرتكز وجود شعب المايا ذاته حول التواصل اليومي مع الطبيعة.
موازنة التغيير مع التقاليد
ويقول خوسيه ميس، أحد قادة المجتمعات المحلية في سانتا كروز: "نحن نعيش في وئام مع الأرض، والشمس، والمطر".
ويستيقظ ميس على صياح الديك، ويعتمد بروتينه اليومي على ما يجب القيام به في تلك المرحلة من العام.
وربما يساعده أحد الجيران في إعادة ترتيب سقف منزله، أو حصاد الذرة، أو زرع البذور لفصل الخريف.
وتحدّد ظروف الأرض والسماء طريقة حياتهم، الأمر الذي قد يكون نعمة ونقمة، خاصة أنّهم يعيشون الآن في عالمٍ تحكمه التكنولوجيا.
ورغم ذلك، كان توصيل الكهرباء إلى هذه المنطقة النائية بطيئًا.
وتقع القرية، مثل العديد من القرى المجاورة، بعيدًا عن شبكة الكهرباء الوطنية، الأمر الذي يصعّب لوجستيًا إمداد المجتمعات بالكهرباء.
ويُوضح ميس: "لدينا ألواح شمسية على بعض أسقف المنازل، لكن الأمر نادر".
وتأتي الكهرباء مع مجموعة التحديات الخاصة بها، إذ أن جلب الطاقة إلى القرية سيجعل حياة سكانها أسهل، ولكنّ قد يهدد تقاليدهم في المقابل. ويشير ميس إلى أنهم كان عليهم المكافحة بجد لحماية أرضهم ومنازلهم هنا، لافتًا إلى أن ذلك أصبح أكثر صعوبة مع تغير العالم بسرعة وباستمرار.
وفي منزل ميس، وهو عبارة عن هيكل دائري كبير يعلوه سقف من القش، تجلس زوجته أمام موقد نار صغير، بينما تمزق قطعًا بحجم كفها من كرة كبيرة من عجين الذرة البيضاء.
وتستخدم كعب يدها بمهارة لتشكيل العجين على هيئة خبز التورتيلا، بالتناوب مع أطراف أصابعها لإتقان الشكل.
وعندما يفتح ميس منزله لاستقبال السياح، وهو ما يفعله من خلال التخطيط الدقيق وبمساعدة برونو كوبينجر، المرشد السياحي الألماني الذي كان يعمل في بليز منذ 25 عامًا، فإنه يحرص على منحهم تجربة الانغماس في الحياة اليومية لمجتمعه.
وينغمس الزوار بتجربة رفع المدقة الثقيلة لطحن الذرة، وتشكيل عجينة التورتيلا، وهي مهمة معقدة بشكل مدهش بالنسبة لأطراف الأصابع غير المُدرّبة.
كما يأخذ ميس ضيوفه في تجربة استكشاف لكل ما يزرعه، على سبيل المثال الكاكاو، والفاصولياء، والفلفل.
مخاوف بشأن السياحة غير الخاضعة للرقابة
ويستفيد ميس وعائلته من جلب السياح إلى منازلهم، لكنّهم يدركون مخاطر ذلك أيضًا.
وتمثل السياحة نسبة حوالي 41% من الناتج المحلي الإجمالي لبليز، ولذا فمن الضروري أن يتم تطويرها بعناية وبالتعاون مع المجتمعات المحلية.
ويضيف ميس: "لسنا واثقين بأننا سنتلقى الحماية من الحكومة إذا أصبحت هذه فجأة وجهة سياحية كبيرة، كما حدث في مناطق أخرى من بليز".
وتخطط وزارة السياحة في بليز لعملية توسيع كبيرة للبنية التحتية للنقل في المنطقة، على أمل جذب المزيد من السياح إلى توليدو، أي المنطقة الجنوبية المتاخمة لغواتيمالا.
وفي الوقت الحالي، ترتبط العديد من رحلات المدن الأمريكية الكبرى بالدولة، ولكن لا توجد رحلات جوية أوروبية.
ومن جانبه، يقول أنتوني ماهلر، وزير السياحة في بليز: "نعتقد أنه يمكننا الاستمرار في بناء قطاع السياحة [في توليدو] إذا قمنا ببناء المطارات وتوصيل الرحلات الجوية في البلاد".
ويضيف ماهلر: "[نحتاج أيضًا] للإستثمار في البنية التحتية الداعمة للسياحة، مثل غرف الفنادق والطرق المؤدية إلى المواقع الأثرية والمتنزهات الوطنية".
ويتابع: "هناك حاجة إلى التركيز على استدامة ثقافاتنا ومواردنا الطبيعية وتدريب موظفينا لضمان استعدادهم للعمل في قطاع السياحة على مستوى عالٍ، نحن نقوم بتحديث خطتنا الرئيسية للسياحة المستدامة، والتي توجّه ما نقوم به للتعامل مع قضايا العصر الحديث".
'أنا قلق بعض الشيء'
وقام برونو كوبينجر، الذي يعمل مع ميس، بتطوير علاقات مع مجتمعات المايا بعناية، قائلًا: "أنا قلق بعض الشيء من أنّ توليدو قد تكون الوجهة الناشئة التالية، ولن يكون هناك حماية لمنع أي شخص من زيارة القرى".
وعلى الجانب الآخر، يُصرّ ماهلر على أنّ الحكومة ستعمل عن كثب مع هذه المجتمعات للتشاور بشأن أي توسع، وأنّ برنامج لتدريب المرشدين السياحيين الشامل في البلاد، سيضمن احتواء السياحة الجماعية في قرى المايا.
ويساعد إشراك الزوار في تجربة أسلوب حياة المايا بالحفاظ على تقاليدهم الخاصة، ولكنّه توازن دقيق ضد تهديد السياحة المفرطة.
ويقول ميس: "نحن ننتقل أكثر إلى العالم الحديث لأن أسلوب حياتنا يصعب الحفاظ عليه في الوقت الذي نعيش فيها. لكننا نرغب بأن تكون لدينا القدرة على إدارة مشاركتنا في العالم الخارجي وألا يكون لدينا غرباء يأتون إلينا من دون إذن".
ومع ذلك، إذا تم التعامل معها بدقة وحساسية، يمكن أن توفر أعمال السياحة مستقبلًا مستدامًا لسانتا كروز.
ويعرب ميس عن استمتاعه بفرصة مشاركة تقاليده ومعرفته الأصلية مع الغرباء، مشيرًا إلى أنّه يتعلّم منهم أيضًا.
ويقول: "أنا لست ضد الأشخاص الذين يزورون قريتنا، أنا أستمتع بهذه المحادثات والروابط".
ويضيف أنها "فرصة جيدة للتعرّف على طريقة حياتنا. وبالطبع، بدورنا نتعلم من السياح أيضًا".