السعودية بين الماضي والحاضر والمستقبل..كيف تبدو زيارة المملكة الآن؟
مقال رأي لمذيع CNN ريتشارد كويست يروي فيه تفاصيل زيارته إلى المملكة العربية السعودية والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم بها المملكة، فضلًا عن إنشاء مدن جديدة، ومناطق جذب سياحي، وتخطيطها لعالم ما بعد النفط.
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- لقد رأيت البلدان وهي تتغيّر من قبل، لكنني لا أعتقد أنني رأيت شيئًا يشبه التغيير الذي يحدث في المملكة العربية السعودية.
فهو ليس مثل سقوط أوروبا السوفيتية، ولا الاضطرابات التي شهدتها سريلانكا مؤخرًا. التغيير في السعودية متعمّد، وعميق الأثر، ودراماتيكي.
ومن الصعب زيارة المملكة العربية السعودية من دون تسلّل بعض الأفكار المُسبقة، والصور النمطية، والأحكام المسبقة إلى توقعات المرء.
وفي النهاية، فقد أمضت البلاد العقود الخمسة الماضية في حجب نفسها عن العالم الخارجي- وحتّى وقت قريب - مما جعل من الصعب جدّا على أي شخص زيارتها، ما لم يكن في زيارة دينيّة إلى مكّة.
ولقد سمعنا جميعًا عن كيف يجب أن تكون المرأة مغطاة بالكامل ومحجبة، وعدم الاختلاط بين الجنسين، والشرطة الدينية شديدة القسوة.
وبصراحة، ستكون رغبة السياح الغربيين بالذهاب في إجازة إلى هناك مفاجئة، فمن الصعب قضاء وقت ممتع في تلك البيئة القمعيّة.
ولذلك، أدّى قرار قيادة الأمة بنفخ إعصار من الهواء النقي عبر البلاد إلى قلب المكان كله رأسًا على عقب.
وكجزء من هذا التغيير، تُنفق السعودية مبالغ ضخمة من المال لإنشاء مُدُن جديدة، ومناطق جذب سياحي، وتُخطط على المدى الطويل لعالم ما بعد النفط.
وفي السعودية اليوم، هناك أمر ثابت واحد فقط: التغيير بسرعة كبيرة.
وسيكون من السخيف المضي قدمًا من دون الحديث عن الرجل الذي يقف وراء هذه التغييرات، أي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، المعروف بـ"MBS".
ولا يمكن إجراء أي نقاش حول ولي العهد دون الإشارة إلى الجدل الذي يولّده. فمهندس الإصلاحات في المملكة العربية السعودية. هو محمد بن سلمان.
وهو يقوم بتحديث الاقتصاد بسرعة هائلة، مما يخلق الفرص الهائلة داخل البلاد، ولكنه يتعرّض أيضًا لانتقادات شديدة بسبب سجلّ المملكة العربية السعودية في مجال حقوق الإنسان.
ويقول كثيرون إنه كان انتقائيًا في إصلاحاته، ففي الوقت الذي قام بتغيير القوانين التي تسمح للمرأة بقيادة السيارة، يرى النقاد أنه لا يزال هناك مجال ضئيل جدًا للمعارضة العلنية.
ويوضّح مقتل الصحفي السعودي المُعارض، جمال خاشقجي، ذلك، إذ ذكر تقرير الاستخبارات الأمريكية أن محمد بن سلمان كان وراء عملية القتل بالسفارة السعودية في إسطنبول.
وهو ما نفاه ولي العهد السعودي بثبات وحزم، لكنه قال إنه يتحمل المسؤولية كقائد سعودي.
وأنا أطرح هذه المسألة الآن لأنه جوهر التناقض الذي يتجسّد بالسعودية اليوم.
إذ تمت الإشادة بالأمير محمد بن سلمان لتطبيق الإصلاحات المجتمعيّة، والاقتصاديّة، ومنح حريّات جديدة للملايين من السعوديين العاديين، ومع ذلك، هناك هذا الجانب المظلم للإصلاحات الذي يُسيء إلى القيم الغربيّة، ويحول دون المصادقة الكاملة.
وواجه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، هذا التناقض عند زيارته للسعودية في يوليو/تموز، وموازنته بين الحاجة للنفط السعودي، والقوّة الاقتصادية، مع محاولته عدم الظهور بمظهر مريح للغاية مع الرجل الذي يعتقد مكتب الاستخبارات الأمريكية أنه وافق على عملية القتل.
وهذا تناقض يمكن رؤيته بطرق كثيرة من قبل أي شخص يزور هذا البلد المذهل.
المارد يخرج من القمقم
هناك حقيقة واحدة يذكرني بها الجميع بشكلٍ متكرّر: غالبية الناس في المملكة العربية السعودية يقل عمرهم عن 30 عامًا (ما يزيد قليلاً عن 40٪ أقل من 25 عامًا).
ولا يوجد مكان يُجسّد ذلك بطريقة أفضل من "البوليفارد".
وهذه منطقة ترفيهية جديدة في المدينة، حيث يمكن للنساء الاختلاط بشكلٍ علني مع الرجال. ويمكن للنساء إما وضع غطاء الرأس أم لا، إذ يعود الخيار لهن (نعم، أعلم أنه يمكن للتقاليد والضغوط الاجتماعية إجبارك على القيام بأشياء لا ترغب بالقيام بها، ولكننا نتحدث عن التقدّم، والتقدّم المجتمعي ليس منظمًا ومرتبًا أبدًا).
وفي السعودية، لم أتوقع أبدًا أن أرى رجالًا ونساء يختلطون معًا، وDJ يختار الأغاني والموسيقى الصاخبة، وتتمايل الحشود على وقع الموسيقى.
ومع ذلك، ها هو الأمر يحدث أمام عيني.
وتقول رجاء الصانع: "حدث هذا فقط في الأعوام الخمسة الماضية".
والصانع تدرّبت كطبيبة أسنان، كما ألّفت كتابًا بعنوان "بنات الرياض"، وهو عبارة عن حكاية خياليّة تدور حول 4 نساء، وحياتهن العاطفية معقدة، ويُشار إلى الكتاب بـ"الجنس والمدينة" الخاص بالسعودية.
وتتخصّص الصانع في علاج قناة الجذر، ومثل حبها لطب الأسنان، تعرف الكاتبة صعوبة الألم.
وسبحت الصانع عكس التيّار لفترة طويلة لدرجة أنها تستمتع الآن بركوب أمواج التغيير.
ولا تعتقد أن هذه التغييرات قابلة للعودة إلى الوراء، إذ تقول: "لن يعود المارد (إلى القمقم)".
إذًا، كيف يمكن لهذا البلد، حيث لا يزال صوت الآذان مسموعًا بصوتٍ عالٍ 5 مرّات في اليوم، التفاوض بشأن إحداث تحوّل هائل، مع الالتزام بالتقاليد، والقداسة الدينية؟
هل يمكن إعادة بناء المنزل دون هدمه؟
هذا هو لغز المملكة العربية السعودية: محاولة احترام ماضي البلاد، مع إدخال إصلاحات تهدف إلى إفادة السكان المحليين، وجذب السياح إلى وجهة يمكن أن يشعر المرء أنها غير مُكتشفة، وسلعة نادرة في عصر السفر الحديث.
فالوجهات السياحية في البلاد باقية هنا وتنتظر.
وقصر المصمك المهيب في الرياض المرمم، حيث المكان الذي انطلقت منه أسرة آل سعود وبدأت حكمها للبلاد في عام 1932، وجهة ضروريّة لأي زائر.
وينطبق الأمر ذاته على حي الطريف المدرج ضمن قائمة التراث العالمي باليونسكو، والذي تم ترميمه بعناية، وبشكلٍ يراعي التفاصيل الأثرية.
الصانع أخذتني في جولة بسيارتها. وكما هو معروف فلا تزال قيادة النساء في السعودية بالأمر الحديث، ومع أن الحقيقة الرئيسية هي وجود التّقدم، إلا أنه لا تزال هناك مفارقات صارخة.
فلا تزال المرأة بحاجة إلى إذن ولي الأمر للزواج، أو نقل الجنسيّة.
وهذه من الجوانب "النصف منتهية الإنجاز" فيما يتعلق الأمر بالإصلاحات السعودية.
ومع أن كتاب "بنات الرياض" ليس فاضحًا بالمعنى التقليدي، إلا أنه بمثابة أمر كبير في السعودية.
وتوضح الصانع: "أعتقد أنه كتاب عن قضايا المرأة، والحب، والحياة الاجتماعية اليومية، والنضال في العمل، والنضال عند خوض هذه الحياة".
والصانع متحمسة بشأن ما يحدث في البلاد الآن، إذ تقول: "نحن حريصون جدًا على التعلم … وحريصون جدًا على امتلاك هذه الثقافة".
حان الوقت للقهوة
ولا تتوفّر المشروبات الكحوليّة في السعودية.. هذه هي الحقيقة ببساطة.
ولكن هناك أحاديث حول ما إذا كان سيتم السماح للفنادق، أو المطاعم، أو أماكن معينة خاصة بالأجانب بتقديم النبيذ، والجعّة، وغيرها في المستقبل البعيد.
وفي النهاية، إذا كنت تنوي تنشيط صناعة السياحة الخاصة بك، فإن عدم وجود مثل هذه المشروبات سيضعك في وضع أقل حظًا مقارنة بالوجهات الأخرى.
وتتفوّق الرياض عندما يأتي الأمر لوجود عدد كبير من المتاجر الخاصة بالقهوة.
ومع عدم وجود الحانات، انتشرت المقاهي ذات الطراز الغربي في كل مكان خلال الأعوام القليلة الماضية.
والأمر عبارة عن اقتصاد اجتماعي بسيط..عند التخفيف من القواعد، تصبح المقاهي المكان المناسب للقاء، ولكن تشبه القليل منها "MW Café"
ومالك المقهى هذا شخصية غير متوقّعة، إذ يأتي من الولايات المتحدة، ولديه قصة لا تُصدّق.
فـ"بيل" كان مغني راب ويُعرف بـ"نابليون" في السابق، إذ كان عضوًا في مجموعة "Outlawz" التي أسسها صديقه الراحل توباك شاكور.
ويقول "بيل": "كنت قد وقّعت عقدًا مع "Death Raw records" شركة التسجيلات التي كانت مسؤولة عن نشر وتوزيع موسيقى راب العصابات في التسعينيات. وكان معها سنوب دوغ، ودكتور دري، وتوباك، وOutlawz، لذلك كنا في وسط ما يحصل. وكان الأشخاص الذين يعملون في الاستوديو من أعضاء العصابات.. لقد كان موقفًا عنيفًا للغاية".
ومن موسيقى "راب" العصابات، إلى السعودية؟ سئم "بيل" من الحياة التي كان يعيشها، وخاصةً بعد مقتل شاكور في عام 1996.
وأشار "بيل" إلى أنه شعر بأنه فقد السيطرة، إذ كان يبحث عن شيء من شأنه توفير السلام له. ووجد ذلك عبر اعتناقه الإسلام، والانتقال إلى المملكة العربية السعودية، وإتمام مناسك الحج.
وعاش "بيل" هنا منذ 11 عامًا، وأصبحت القهوة شغفه.
وقال بيل: "عندما جئت لأوّل مرة، لم يكن بإمكانك أن تجلس في الخارج، وتشرب القهوة".
وأضاف: "أنا أستمتع بهذه الأشياء الآن، هل تعرف ما أعنيه؟ يُوجد الكثير من التغيّرات التي أعتقد أنها تجعل المزيد من الناس يشعرون وكأنهم..". ويأخذ نفسًا بصوت عال، مضيفًا: "يمكنني ركوب دراجتي الآن في الحي الذي أعيش فيه، ويمكنني حرفيًا شراء كوب من القهوة، أو شطيرة".
وقد تبدو هذه الأمور صغيرة، ولكنها في الواقع تُعتبر تطوّرات كبيرة في بلدٍ عاش أسلوب حياة مختلف عن الغرب، وأجزاء كثيرة من العالم العربي لعقود من الزمن.
"لحظة التنوير الخاصة بنا"
أن ترى الرياض وحدها فقد تشعر بإحساس زائف لما يحدث.
ولكن عندما أذهب إلى منطقة عسير، الواقعة على بُعد 900 كيلومتر من الرياض، وفي الجنوب الغربي، أرى التحوّل يحدث، ولكن بسرعة أقل.
وعلى سبيل المثال، يحتضن فندقنا طاولات منفصلة للرجال، والنساء، والعائلات. وبينما يمكننا جميعًا الجلوس معًا، يفضل القليل هذا الخيار.
ويلاحَظ أن الأشخاص الذين لا يضعون غطاء الرأس هم من الوافدين، أو الغربيين.
وهنا، أرى السعوديين وهم يستوعبون ما يحدث بعناية، ويقرّرون بشكلٍ فردي ما هي الوتيرة المناسبة لحياتهم.
ولطالما كانت عاصمة منطقة عسير، أبها، مستقلة.
وخلال الفترات التي تمتّعت بالتّحفّظ الشديد في السعودية، وعلى مدى قرون سابقة، ازدهر التعبير الإبداعي هنا.
ففي قرية المفتاحة الفنيّة بالمدينة، جاء الفنان السعودي الشهير عبد الناصر غارم في سن المراهقة للتدرّب على يد كبار السن المحليين.
ومنذ ذلك الحين، بيعت أعماله مقابل مئات الآلاف من الدولارات في المزادات.
والأمر اللافت للنظر أن مُحافِظ منطقة عسير هو الذي أنشأ هذه المساحة للإبداع في عام 1989، وليس الفنانين.
ومنذ ذلك الحين، قامت هذه المساحة المموّلة من قبل الحكومة بإنتاج الفن بحرية في بلد مُلزم بقانون ديني صارم.
وهذا مثال كلاسيكي على التناقض السعودي.
وقال غارم أثناء اصطحابنا بجولة في القرية التي صنع اسمه فيها منذ 30 عامًا: "في البلد كله، لقد كان هو المكان الوحيد الذي يمكنك أن تجد فيه الفن، والموسيقى"، ثم أضاف: "بصراحة، كان الأمر صعبًا للغاية، لأننا نشعر بمقاومة المجتمع".
ويُجسّد غارم التوازن الذي تحاول السعودية تحقيقه.
وإلى جانب كونه فنانًا مشهورًا، وناجحًا من الناحية التجارية، شغل غارم رتبة مقدم في الجيش السعودي.
ويعتقد غارم أن العالم الذي صُنِع في قرية المفتاحة للفنون أظهر الطريق للبلاد ككل.
ويقول: "أعتقد أنها شرارة لما يحدث الآن في جميع أنحاء المملكة".
وبصفته فنانًا، كان يجب عليه أن يكون متقدمًا بخطوتين في ما يحدث. ومع وجود العديد من الروّاد الآخرين الذين يعملون في هذه الاستوديوهات، قد يكون هذا سبب تمتّع هذا المكان بتأثير عميق.
ويقول غارم: "في الوقت الحالي، أعتقد أننا نعيش في قصة، ويمكنني أن أُشير إليها بأنها ( قصة) تنوير. وكما تعلم، لدى كل أمة لحظة تنوير خاصة بها. وأعتقد أننا ما زلنا في مرحلة تشكيل حاضرنا".
دولة متغيّرة
وفي بلدٍ يمر بتغيّرات عميقة كهذه، لن يتوصل سوى الأحمق إلى استنتاجات شاملة، إذ أننا لا نزال في منتصف العاصفة، ومن الصعب رؤية النتيجة النهائية.
ولذلك، قمت بزيارة العلا، وهي مدينة قديمة واسعة تقع على درب البخور الذي عبر هذا الركن من الشرق الأوسط، ومقابر الحِجر المجاورة، وهي أول موقع سعودي يُدرج ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو، حيث يجري تنفيذ مشروع ترميم ضخم.
وهنا يتم إنفاق الأموال للحفاظ على الماضي، والمباني المزيّنة بالمرايا، مثل قاعة مرايا للحفلات، وهي عمل فني بحد ذاته.
ويتعايش الاثنان معًا على ما يبدو في وئام.
وفي العلا، شيّد الأنباط مقابر مذهلة في القرن الأول قبل الميلاد.
وظلّت الآثار غير ملموسة لألفي عام تقريبًا، وهي عبارة عن منجم ذهب لعلماء الآثار.
وفي هذا السياق تقول عالمة آثار في المنطقة، جين مكماهون: "المملكة العربية السعودية واحدة من آخر الفرص المتوفّرة لدينا لاكتشاف شيء جديد تمامًا حول كيفيّة تحوّل البشر إلى الأفراد الذين نحن عليهم اليوم".
وأضافت مكماهون: "نعتقد أن هناك منازل من العصر الحجري الحديث (هنا) يعود تاريخها إلى 7 آلاف عام تقريبًا".
ويرتكز التغيير الذي يحدث اليوم في أنحاء المملكة العربية السعودية على الجهود المبذولة لتأسيس ماضيها الحقيقي، وهو شيء يمكن للزوار مشاهدته بأنفسهم في وجهة من المؤكّد أنها ستنافس المُدن القديمة مثل البتراء في الأردن، وأفسس في تركيا، في الأعوام القادمة.
وما اكتشفته في شوارع الرياض المزدحمة، وجبال عسير الباردة، أو عند استكشاف الماضي القديم في الحِجر، سواءً من الناحية الاجتماعية، أو التجارية، والأثرية، إلى الحياة اليومية، أن كل شيء في المملكة العربية السعودية يبدو أنه يخضع للتغيير.
وهناك ملاحظة واحدة من زيارتي أعتقد أنها تُظهر الصعوبة التي يواجهها الجميع عندما يتعلق الأمر بالسعودية: بعد أسبوع من مغادرتي في مارس/آذار، أعدمت البلاد 81 شخصًا في يومٍ واحد بسبب جرائم إرهابية.
وهذا عدد كبير.
وبالنسبة لي، يُثير الأمر سؤالاً حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه المملكة العربية السعودية لجذب العالم قبل أن تصبح التجاوزات أكثر من اللازم، أو لربما تكون هذه التناقضات بالتحديد ما يجعل هذا البلد ساحرًا للغاية.
ويمكنه أن يكون صعبًا، وقبيحًا، وقاسيًا، ولكنه أيضًا آسر، ومنعش، ويعمل على تحسين حياة الأمة.