"ترانكيبار"..رحلة عبر الزمن بمستعمرة دنماركية منسية بالهند
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- رُغم التاريخ الطويل للحكم الاستعماري في آسيا، إلا أنّ أثر الدنمارك لم يكن كبيرًا.
وليس من الخاطئ القول إنّ عدداً قليلاً من الهنود، وعدداً أقل من الدنماركيين، كانوا على علم أنّ هذه الدولة الواقعة في شمال أوروبا تمتّعت بموطئ قدم في الهند يُدعى "ترانكيبار"، خلال الفترة بين عامي 1620 و1845،
و"ترانكيبار" عبارة عن نقطة تجارية صغيرة تقع على ساحل "كورومانديل" في شرق الهند.
ورُغم أنّها بلدة عادية تُدعى "ثارانغامبادي" في ولاية "تاميل نادو"، إلا أنّ آثار الحكم الدنماركي لا تزال واضحة فيها بشكلٍ مثير.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك مبنى استعماري قديم يُدعى "Bungalow on the Beach" تم ترميمه بشكلٍ جميل على الواجهة البحرية لخليج البنغال.
واستُخدِم المبنى في الأصل كمحكمة خلال العصر الدنماركي، وتم تحويله إلى مقر إقامة رسمي بعد أعوام مع وصول البريطانيين.
واليوم، أصبح المبنى عبارة عن فندق ساحر.
وبدأت جهود ترميم المبنى في عام 2004، ومن ثم افتُتِح للضيوف في عام 2006 تحت إشراف مجموعة "Neemrana" التي تدير سلسلة من الفنادق الفاخرة في الهند.
ويضم الفندق 8 غرف فقط، وسُمِّيت كل منها تيمنًا باسم أفراد من العائلة المالكة الدنماركية.
اكتشاف "ترانكيبار" بالصدفة
لماذا أطلق الدنماركيون على مستوطنتهم الجديدة اسم "ترانكيبار"؟
أشار مؤرخون إلى أنّهم لم يتمكنوا من نطق الاسم الأصلي لبلدة "ثارانغامبادي". ولكن حقيقة وصول الدنماركيين إلى الهند في المقام الأول كانت صدفة بعض الشيء.
وبدأ الأمر عندما انطلق القائد البحري، أوفي جيدي، البالغ من العمر 23 عامًا من لشبونة في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1618 تحت علم شركة "Danish East India"، بتمويل من الملك كريستيان الرابع.
وانطوت مهمته على مساعدة إمبراطور سيلان (سريلانكا حاليًا)، الذي كان تحت حصار البرتغاليين، مقابل تأمين حقوق التجارة إلى الدنمارك.
ولكن بحلول وصول جيدي في أوائل عام 1620، وذلك بعد رحلة حافلة بالأحداث حول رأس الرجاء الصالح، فقد خلالها ثلثي جنوده البالغ عددهم 300 جندي (بسبب صراع مع القراصنة أو المرض)، كان البرتغاليون قد سيطروا على البلاد بالكامل.
ونتيجة شعوره بخيبة أمل بعد فشل مهمته، انطلق جيدي وأسطوله الصغير المكون من 3 سفن شراعية وفرقاطتين إلى ساحل "كورومانديل" حتى ألقوا المرساة في ثارانغامبادي.
وسرعان ما أبرم جيدي صفقة مع الحاكم الهندي آنذاك، راغوناثا ناياك من ولاية "تانجور"، لاستئجار قطعة أرض، والحصول على حقوق تجارية حصرية مقابل مبلغ قدره 3 آلاف روبية (37 دولارًا) سنويًا.
وهكذا، في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1620، وبعد عامين من إبحار جيدي من موطنه، وُلدت القاعدة الدنماركية "ترانكيبار".
وسارع الدنماركيون في بناء حصن صغير يواجه البحر على الشاطئ مباشرةً، وأُطلِق عليه اسم "دانسبورج"، وكان هدفه إيواء السكان الدنماركيين الأوائل.
توسيع الأثر الدنماركي
ورُغم تمتّع الدنماركيين بمعاهدة موقّعة مع ناياك، إلا أن الأخير أثبت أنّه حليف متقلب.
وأدّت عمليات النهب المستمرة من قوات ناياك إلى تحصين "ترانكيبار" بجدار، وخندق، والعديد من الأبراج المخصصة للمدافع.
وبعد شعورهم بمستوى أكبر من الأمان، انتقل الدنماركيون إلى خارج قلعة "دانسبورج" لبناء العديد من المنازل على الطراز الأوروبي بهدف إيواء الضباط، وموظفي الخدمات المدنية.
وتم التحكم بالمدخل الوحيد إلى المدينة عبر بوابة تُدعى "Land’s Gate"، وهي عبارة عن هيكل حجري أبيض يحمل شعار النبالة، وشعار ملك الدنمارك، وهو أول ما يراه المرء عند دخول "ثارانغامبادي" الآن.
أدرك الدنماركيون أيضًا أنّهم احتاجوا إلى منطقة صناعية نائية لجعل مركزهم التجاري صالحًا للحياة.
ولذا، عند إعادة التفاوض بشأن المعاهدة في عام 1670، استحوذ الدنماركيون على قرى إضافيّة ومناطق صغيرة بلغت مساحتها الإجمالية 32 كيلومترًا مربعًا.
وأنتجت ورش العمل في المنطقة الموسّعة المنسوجات القطنية لتصديرها إلى السوق الأوروبية، بالإضافة إلى البضائع التقليدية من الفلفل، والهيل، والقرنفل، والتوابل الأخرى، والملح الصخري، والقهوة، والسكر، والخيزران.
البروتستانتية تصل إلى الهند
ويُعد متحف "Ziegenbalg" من عوامل الجذب الأخرى التي تقدم نظرة أعمق حول هذا العصر.
وافتُتِح المتحف أمام الجمهور في عام 2017، وهو يقع في المقر السابق للمبشّر الدنماركي الألماني المولد، بارثولوماوس زيغنبالج.
وتم إرسال زيغنبالج إلى "ترانكيبار" في عام 1706 من قبل الملك اللوثري فريدريك الرابع لزرع عَلَم البروتستانتية على الأراضي الهندية.
وكان زيغنبالج شخصية نادرة، إذ أنّه تجنب الأماكن المخصصة له داخل المستوطنة الدنماركية، وانخرط بدلاً من ذلك في الحياة المحلية ليتعلم اللغة المحلية، "تاميل" لدرجة الإتقان.
وعمل زيغنبالج على جمع الأموال للكنائس والمدارس.
ولسوء الحظ، أثّرت الاشتباكات المتكررة بين المبشر الشاب المتحمس والمؤسسة الدنماركية المحلية على صحته بشدّة، ما أدّى لوفاته عن عمرٍ يناهز الـ36 عامًا في الدنمارك.
وأعيد رفاته إلى الهند، وهو مدفون في كنيسة "New Jerusalem Church" في "ثارانغامبادي"، ولا يزال من الممكن زيارتها حتى اليوم.
نهاية الفصل الدنماركي
وفي الأعوام الأولى، كانت الأحوال جيّدة في "ترانكيبار"، ونما عدد سكان المنطقة إلى 15 ألف نسمة بحلول عام 1730.
ولكن على المدى الطويل، ناضل الدنماركيون لإنجاح مستعمرتهم الجديدة في الشرق.
وتضاءلت ثروات "ترانكيبار" وتراجعت مثل الأمواج العاتية التي ضربت شواطئ البلدة الصغيرة.
وأُغلقت مصانع النسيج، والمستودعات، وبدأ الدنماركيون في المغادرة مع انتقال البريطانيين المهيمنين، وظلّت أهمية المستعمرة تتلاشى بحلول القرن الـ19.