"انتبه، نشال!": المرأة التي غزت الانترنت لمكافحتها الجريمة بشوارع البندقية
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- بعدما قَطَعَت مسافة قصيرة من جسر ريالتو في البندقية بحثاً عن نشالين، تمكّنت مونيكا بولي من تحديد عددهم: ثلاثة! ثمّ صرخت بصوت عالٍ يكفي لسماعها على بعد مبنى واحد، بالإيطالية والإنجليزية والإسبانية: "احذروا، لصوص!".. وذلك لتنبيه أكبر عدد ممكن من السيّاح.
يتوقّف الناس ويُحدّقون. تتوجّه إليها إحدى السيدات بالشكر باللغة الإنجليزية وتلتقط وعائلتها صورة معها. يقترب سائح فرنسي من بولي ليشكرها على كل ما تفعله. يتابع أليساندرو لافارداتو، إسوة بـ605 آلاف شخص آخر، بولي على إنستغرام. يقول: "أشكرها على العمل الذي تقوم به والمساعدة التي تقدمها للسي~اح. هؤلاء النشالون مشكلة حقيقية".
إنسوا الفنانين تيتيان أو تينتوريتو.. فبالنسبة للعديد من الناس اليوم، بولي هي الشخص الأكثر ارتباطًا بالبندقية. تبلغ من العمر 58 عامًا، وتقضي الكثير من وقت فراغها تجوب شوارع المدينة بحثًا عن النشالين.
منذ أن نشرت أول فيديو لها على وسائل التواصل الاجتماعي في يونيو/ حزيران 2023، حصدت مقاطعها الخاصة ملايين المشاهدات عبر منصات متعددة. وتقول إن الفيديو الأول حقق 69 مليون مشاهدة على تيك توك وحده (رغم أنها لم تعد على المنصة).
وقد استُخدِمت مقاطع من صوتها القوي جدًا، وعبارتها المميّزة: "انتباه نشالون، انتباه لصوص"، في أغاني الرقص، ووُضعت على لقطات للاعبي كرة السلة وهم يسرقون الكرة من تحت أنوف منافسيهم، وحتى المتظاهرين الذين يسيرون ضد حاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس.
لكن عند معاينة عملها في البندقية يمكنك قياس أثرها الفعلي.
بعدما تراجع أحد المشتبه بهم على عجل بسبب صراخها، صفّق لها الناس. صاح أحد المارة "برافا مونيكا" ("أحسنت يا مونيكا")، كان المشتبه به يسير بشكل عرضي أمام متجر إتش آند إم، ولم يكن يسرق، لكن بولي تقول إنها تعرّفت عليه. وتقول إن هناك حوالي 100 من اللصوص الذكور يعملون بانتظام في البندقية وحدها، والمهمة بالنسبة لها وزملائها المتطوعين تتمثّل بالتعرّف على وجوههم.
التجوّل في المدينة معها يشبه مرافقتك لأفراد من العائلة المالكة. كان حكام البندقية السابقون في أوج الجمهورية، الدوقات، من الذكور دومًا. لكن اليوم، أصبحت بولي الدوقة غير الرسمية للمدينة.
دوامة الجرائم الصغيرة
رصدت مقاطع الفيديو التي تنشرها بولي، ولديها حاليًا 461 مشاركة على موقع إنستغرام، مشكلة متفاقمة تتمثل بالجرائم البسيطة في إيطاليا.
ووفق تقرير صادر عن وزارة الداخلية الإيطالية في سبتمبر/ أيلول 2024، نشره موقع L'Eurispes، تشير بيانات عام 2023، ومطلع عام 2024، إلى أنّ السرقات في وسائل النقل العام خلال العقد الماضي، شهدت نموًا مستمرًا منذ عام 2021، حيث شهد عام 2023 أعلى عدد من السرقات.
وارتفعت سرقات القطارات في أنحاء البلاد بنسبة 21%، لكن سرقات القطارات في البندقية ارتفعت بنسبة مذهلة بلغت 38.8%.
وكان غالبية ضحايا السرقة من الأجانب:
- 78% في الحافلات،
- و81% في القطارات،
- و94% في المترو.
في الشهر الماضي فقط، كتبت صحيفة "إل غازيتينو" المحلية أن مدينة البندقية "أصبحت مكان العمل المفضل للنشالين.. منجم ذهب"، بفضل الشوارع المزدحمة التي تسمح للصوص بسرقة أهدافهم غير المتوقعة، الأجانب عادة.
ربما يميل السيّاح كي يكونوا أقل يقظة، وربما يكون الإيطاليون أكثر وعياً لهذه القضية. لكن بالنسبة لبولي، هناك سبب حاسم آخر لاستهداف الأجانب.
أدى قانون صدر في ديسمبر/ كانون الأول 2022، المعروف باسم إصلاح كارتابيا، إلى تغيير طريقة تعامل نظام العدالة الإيطالي مع الجرائم البسيطة.
وهذا يعني أنه من أجل القبض على النشال، تطلب الشرطة من الضحية تقديم تقرير رسمي. إلى ذلك، إذا لم يحضر الضحية إلى المحاكمة اللاحقة، يتم إلغاء التهمة تلقائيا.
يقول فينسينزو سيناتوري، الشريك الأول في شركة جيامبروني للمحاماة (Giambrone Law): "تم تنفيذ إصلاح كارتابيا لتبسيط العملية القضائية في إيطاليا وتقليل تراكم القضايا، لكنها واجهت انتقادات لأنها بذلك تسمح للنشالين التهرب من الملاحقة القضائية. وبموجب هذا الإصلاح، إذا لم يقدم ضحية السرقة تقريراً رسمياً، يمكن لمرتكب الجريمة تجنب العواقب القانونية.
لم ترد وزارة الداخلية الإيطالية على طلب CNN التعليق.
وبسبب هذه الثغرة، أصبح السياح الهدف الأسهل، بحسب بولي، لأنه حتى لو تمكنوا من القبض على اللصوص متلبسين بالجريمة وقدموا تقريراً، فإنهم بحلول الوقت الذي تصل فيه القضية إلى المحاكمة، يرجح أن يكونوا عادوا إلى ديارهم.
وهذا يعني أن البندقية، التي يبلغ عدد زوارها السنوي نحو 30 مليون زائر، وهو رقم يتجاوز عدد سكانها المحليين الذي يقل عددهم عن 50 ألف نسمة، أصبحت بمثابة حاضنة للجرائم البسيطة.
وبحسب أرقام صحيفة "غازيتينو"، في عام 2019، وهو آخر عام "طبيعي" (قبل الجائحة) قبل تطبيق القانون، تم القبض على 82 نشالاً في البندقية.
وبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لم يكن هناك سوى اعتقالين.
أدت الإحصائيات المتزايدة إلى ارتفاع تصنيف مدينة البندقية إلى قائمة المدن الإيطالية العشر الأكثر "إجرامًا"، بحسب صحيفة Il Sole 24 Ore.
السيناتور "يتفق" مع نظرية بولي. ويقول إن "إصلاح كارتابيا أثار المخاوف، لا سيما في المناطق السياحية الكثيفة مثل البندقية، حيث تنتشر عمليات النشل"، مضيفًا أن مجموعات المتطوعين مثل "سيتاديني نون ديستراتي" التابعة لبولي تتخذ ’تدابير استباقية لحماية الزوار‘".
"باتمان" غير متوقّع
تُجسّد بولي شخصية "باتمان" غير المتوقعة. ولدت وترعرعت في البندقية، وعملت بمتجر ملابس في لندن قبل أن تعود إلى مدينتها الحبيبة، وتعيش في المركز التاريخي لمدينة البندقية مع عائلتها، وتعمل في وظيفة يدوية لم تكشف عنها لدواعٍ أمنية.
فكرت القيام بهذه المهمة في تسعينيات القرن العشرين، حين كانت تعمل بمتجر للملابس في البندقية يحظى بشعبية لدى الزوار اليابانيين. وتقول: "كان ذلك عندما بدأ النشل لأول مرة، ذلأن الناس يعرفون أن المسافرين الآسيويين يحملون الكثير من النقود".
وأوضحت: "كانوا يأتون للدفع، فيجدون أنفسهم بلا محافظهم. لا أستطيع حتى وصف رد فعلهم، كان الأمر وكأن أمرًا مستحيلًا قد حدث".
انضمت إلى منظمة Cittadini Non Distratti، وهي مجموعة تطوعية تأسست في تسعينيات القرن العشرين. على مدى ثلاثة عقود، ظل أعضا ء المنظمة الذين يبلغ عددهم الآن نحو خمسين عضوا، مع شبكة أوسع من المخبرين ذوي النظرة الثاقبة، يراقبون عن كثب أي علامات تشير إلى ارتكاب مخالفات.
يأتي الأعضاء من جميع مناحي الحياة. بعضهم يعمل في مجال السياحة. أحدهم في شبكة النقل العام، والآخر في كشك يبيع الهدايا التذكارية.
وهناك أيضًا بولي التي تقوم بدوريات في الشوارع بوقت فراغها. حتى لو كانت في طريق العودة من السوبر ماركت، تقول، إذا رأت نشالاً فإنها تترك حقائبها وتلاحقه.
وتقول: "أعتقد أنني أفعل ذلك بدافع من شعوري بالفخر الوطني. وأعتقد أنه إذا رأى شخص ما نشالاً يسرق محفظتي فسوف يفعل الأمر ذاته".
بولي لا تتخلى عن وقتها فحسب، بل تعرّض نفسها للخطر. فمنذ بدأت بنشر مقاطع الفيديو الخاصة بها، وتحويل الضوء العالمي إلى الجريمة البسيطة في البندقية، تقول إنها تعرضت لسرقة هاتفها وهجوم جسدي في مارس/ آذار، والرش بغاز الفلفل في يونيو/ حزيران، والبصق في نوفمبر/ تشرين الثاني.
لقد تلقت العديد من التهديدات، كما تقول، وعليها أن تهتم بالمكان الذي تمشي فيه.
بالنسبة لبولي لا يقتصر الأمر على مهاجمة النشالين فحسب. وتؤكد بولي أن الأمر يتعلق بالجريمة المنظمة. وتقول إن "السرقة هي تجارة بملايين اليوروهات في مختلف أنحاء أوروبا، وهي منظمة إجرامية على مستوى المافيا"، مدعية أن المتطوعين شاهدوا عمليات السرقة تبدأ منذ الطفولة ثم تنمو لتصبح تجارة. وتقول إن حماية الطفل تشكل مجالا رئيسيا للقلق.
قبل أن نلتقي، رفضت بولي مشاركة تفاصيل الاتصال بها. وتصر على اللقاء في مكان عام بمنطقة توجد فيها دوريات الشرطة بشكل منتظم، وتظهر برفقة رجل.
وتابعت: "أتلقى الكثير من التهديدات، لقد تعرضت للضرب قبل أسبوعين، وقام النشالون بالبصق علي، ودفعوني. ومع ذلك فأنا أستمر في ذلك لأنه أمر محق. سأستمر بقدر ما أستطيع".