رأي لجميل مطر.. تطورات لاتينية مثيرة

نشر
11 دقيقة قراءة
تقرير جميل مطر
Credit: YASUYOSHI CHIBA/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .

محتوى إعلاني

   لفت انتباهي في الآونة الأخيرة تطورات تلازم وقوعها في وقت واحد في أمريكا اللاتينية. كان في ظني، وبقي، أنه لا يوجد ما يربط بينها، ولكني ما زلت غير واثق تماما من قوة مبررات هذا الظن، فلعل التطورات  بالفعل مترابطة، أو لعلها تعكس حالات متناثرة في القارة اللاتينية تمهد لتغيرات جديدة.

محتوى إعلاني

التطور رقم (1)

   كانت مفاجأة، لي، أنا المتابع عن قرب لتطورات الأمور في أمريكا اللاتينية، الوقفة التي وقفتها حكومات كثيرة هناك، ومعها الرأي العام لإعلان الدعم والتأييد لشعب غزة -- جميل مطر. تصادف، أو لعله من قبيل التناقض الصارخ، أن الحكومات العربية في ذلك الحين كانت قد تأخرت في إعلان دعمها وتشجيعها لشعب غزة. تصادف أيضا، وللغرابة الشديدة، أن الرأي العام العربي، المتعاطف عادة مع شعب فلسطين، لم يعبر عن عواطفه بأساليبه المعتادة أو خمدت بعض عواطفه تحت ضغوط ندر أن مر بمثلها.

بدأت ردود فعل أمريكا اللاتينية لحرب إسرائيل على شعب غزة بغضب في الرأي العام، تبعه قرار من كل من البرازيل وشيلي وبيرو والسلفادور وإكوادور بسحب سفرائها من إسرائيل. كان للقرار رغم شكليته، صدى مدويا في عواصم أوروبا وفي الولايات المتحدة، لأنه كان يعني لفت الأنظار إلى حرب لا يريد الغرب أن تحظى باهتمام دولي كبير، لتنتهي بسرعة وفي هدوء.

وبالفعل توالت المواقف. أعلنت شيلي أنها توقف تبادلها التجاري مع إسرائيل. وفي 29 يوليو، انعقدت قمة دول منظمة «ميركوسور» الإقليمية ليصدر رؤساء الأرجنتين والبرازيل والأوروجواي وفنزويلا بيانا يعلنون فيه إدانتهم إسرائيل ويطالبون برفع الحصار فورا عن قطاع غزة.

وفى لاباز، وبالنيابة عن مجموعة «ألبا» أو ما يعرف بالبديل البوليفاري، أصدر إيفو موراليس رئيس بوليفيا بيانا قويا وصف فيه إسرائيل بأنها دولة إرهابية وطالب بمعاقبتها بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ومن ناحيتها، اعتبرت ميشيل باتشيليت، رئيسة جمهورية شيلي وصاحبة أقوى شعبية بين رؤساء القارة اللاتينية، ما حدث للاجئين الفلسطينيين أشبه ما يكون  بما حدث لها شخصيا عندما نفاها الجنرال بينوشيه دكتاتور شيلي إلى خارج البلاد، وتحدثت طويلا عن معاناتها كلاجئة في  دول غريبة.

   لم يكن المجتمع المدني في أمريكا اللاتينية أقل حماسة واندفاعا، إذ تعددت المظاهرات ومظاهر أخرى من الدعم والتأييد من فئات متنوعة في شعوب القارة، وخرج اثنان من الحائزين على جائزة نوبل، وهما بيريز إسكويفيل من الأرجنتين وريجو بيرتا منيتشو من جواتيمالا يطالبان بمعاقبة إسرائيل بالعقاب نفسه الذي عوقبت به جنوب أفريقيا على سياستها العنصرية.

التطور رقم (2)

   ارتفعت فجأة أصوات كان الظن أنها اختفت أو خفتت، تطالب بفتح ملفات قضايا التعذيب وأعمال الاختطاف والقتل والتشريد التي ارتكبتها سلطات الحكم الدكتاتوري خلال فترة طويلة من الاستبداد في عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية.

ففي الأرجنتين ثارت الزوبعة من جديد بعد أن هدأت لفترة هدوء متقطع منذ إعلان العفو العام عن جرائم التعذيب. ثارت عندما اكتشف شاب تجاوز الثلاثين من عمره إنه ولد في زنزانة حيث توفيت والدته الحامل فيه خلال إحدى جلسات تعذيبها.

يجري الآن تحت ضغط شعبي هائل البحث عن الأوراق والسجلات وأسماء الأشخاص الذين ارتكبوا جريمتي تعذيب المرأة وقتلها. هؤلاء لم يتوانوا عن التخلص من الطفل الرضيع بطريقة "قذرة". تحت ضغط الرأي العام اضطرت حكومة السيدة كريستينا فرنانديز إلى فتح التحقيق من جديد في جميع قضايا الاختطاف والمختفين المعلقة. وما هي إلا أيام إلا وكانت عواصم أخرى في أمريكا اللاتينية تتسابق على وقف العمل بقرار العفو العام، واستئناف التحقيق في كافة جرائم التعذيب التي ارتكبت خلال عهود الحكم السابقة.

كان لافتا للنظر أن تتصدر السيدتان ميشيل باتشيليت وديلما روسيف أنباء فتح التحقيقات بالكشف عن مزيد من المعلومات عن التعذيب الذى مورس ضدهما كناشطات صغيرات في عهد الحكم السلطوي -- جميل مطر.

عدنا نقرأ قصة "ستيلا" الاسم الحركي للآنسة ديلما التي اعتقلتها السلطات البرازيلية  في عام 1970. قضت ثلاث سنوات في السجن، جرى خلالها تعذيبها، بتعريضها لصدمات كهربائية على أذنيها وقدميها وعلى صدرها. أجبروها على تمثيل دور الببغاء بأن تقف على رأسها وقدماها إلى أعلى وهي عارية تماما ومربوطة إلى لوح من الخشب -- جميل مطر. كان عمرها وقتها 22 عاما وهي الآن 64 عاما ورئيسة لجمهورية البرازيل.

أعيد فتح ملف الموضوع، واستدعت لجنة تحقيق شُكلت حديثا السيد ماوريسيو لوبيز ليما، العقيد المتقاعد الذى أشرف بنفسه على تعذيب الأنسة ديلما. والطريف في القصة أن السيد لوبيز ليما يقود في الوقت الحالي حملة تطالب برفع الظلم الواقع على المتهمين بإجراء عمليات تعذيب خلال الفترة من 1964 إلى 1985، ويطالب بتنفيذ العفو العام الصادر عام 1979 وهو القانون الذي شرع  ليحمى العسكريين خاصة من محاكمات التعذيب. أما الرئيسة  ديلما، التي تجاوزت شعبيتها نسبة  77٪  بسبب سياساتها الاجتماعية وبخاصة تجاه الفقراء، فقد خرجت عن صمتها الطويل لتتحدث عن أيام محنتها في التعذيب.  قالت " شعرت بالخوف عندما أحسست بجلدي يرتعش حين لامس رجل التعذيب جسدي، وقد بقيت معي الى اليوم هذه الرعشة كلما شعرت بالخوف" . وفي غمرة الاهتمام الإعلامي سأل صحفي برازيلي أحد المتهمين بالتعذيب إن كان حقا جرى التعذيب في ذلك الحين كما يحكي الأحياء من الشهود، أجاب بنعم. عاد الصحفي فسأله إن كان التعذيب مازال يمارس. أجاب بنعم. ومع ذلك فقد بادرت ديلما بالتبرع  بمبلغ عشرة آلاف دولار لحركة أطلقت على نفسها اسم "لا للتعذيب بعد الآن". الجدير بالذكر أنه بعد الإعلان عن التبرع هاجمت عناصر مجهولة مقر الحركة ودمروا محتوياته واحرقوا سجلاته ووثائقه.

                                         ***           

على الناحية الأخرى من القارة، وفي أقصى جنوبها الغربي عاشت طالبة جامعية تدرس الطب واسمها ميشيل. جرى اعتقالها بتهمة الانتماء إلى تنظيم يساري، وتعرضت خلال فترة الاعتقال للتعذيب. تقدر مؤسسات الأمم المتحدة عدد الذين اختفوا فى شيلي في السنوات التالية للانقلاب الذي أسقط حكومة سلفادور آيندي في 11 سبتمبر 1973، بحوالي 3200 شخص بينما تعرض للتعذيب ما يزيد عن 38.000 شخص. ومازالت منظمات المجتمع المدني تحقق بحثا عن المختفين، وبخاصة بعد أن أعلن قبل أيام قليلة عن اكتشاف عظام بشرية بقرية ملاصقة لمعسكر في وسط شيلي. ولم تجد السلطات الشيلانية وعلى رأسها السيدة باتشيليت بدا من إعادة فتح التحقيق في ملفات كان الظن أنها أغلقت نهائيا.

التطور رقم (3)

   خرجت تقارير متعددة من أمريكا اللاتينية ومن الولايات المتحدة تلمح إلى أن بعض جيوش أمريكا اللاتينية بدأت تستعرض عضلاتها، بعد فترة طويلة من الكمون والبعد عن الأضواء السياسية -- جميل مطر.

يشير المحللون، وأتفق مع بعض تحليلاتهم، إلى أن للظاهرة أسبابها الوجيهة. إذ حدث خلال السنوات الأخيرة أن عمت الفوضى أنحاء عديدة من مجتمعات أمريكا الجنوبية وبخاصة دول أمريكا الوسطى. كانت أهم علامات هذه الفوضى الزيادة الرهيبة في إنتاج المخدرات وتجارتها وتهريبها والزيادة المريعة أيضا في الجريمة، سواء المنظمة أو العادية. يختطفون الأطفال لتدريبهم على تهريب المخدرات ويوظفون الشباب في عصابات إجرامية لخطف الميسورين وطلب فدية لإعادتهم، وللاستيلاء على أموال المارة في الشوارع وهتك الأعراض.

   تقول التقارير إن الناس هجروا الشوارع إلا لقضاء حاجات سريعة وضرورية، والكثيرون صاروا يطالبون بنزول قوات الجيش إلى الشارع ليحلوا محل أجهزة الشرطة الفاسدة والمتواطئة مع عصابات المخدرات والجريمة ومع رجال السياسة.  يضيف المحللون أسبابا أخرى، منها على سبيل المثال، أن الناس تعودوا خلال السنوات القليلة الماضية على رؤية الجيش وهو يقوم بمهام هي من صميم عمل الشرطة، مثل حماية تجار المخدرات ومزارع ومعامل الإنتاج. تقول جوكوسكى الأستاذة بمدرسة البحرية الأمريكية في مونتيرى بكاليفورنيا والمتخصصة في العلاقات المدنية العسكرية، أن الناس مازالت تعتقد في أن الجيش غير قابل للإفساد على عكس الشرطة، ويقول بينيتيز Benitez الأستاذ بالجامعة الحرة في الأرجنتين أن الشعوب عادت ترتاح لرؤية جندي الجيش في الشارع يحمل مدفعه الرشاش.

                                             ***

أعود فأقول أن اجتماع هذه التطورات اللاتينية قد لا يزيد عن كونه مصادفة. ومع ذلك يبقى عندي هاجس يلح. هناك رابط لا أراه  -- جميل مطر.

نشر
محتوى إعلاني