"تخاريف البخاري".. عدنان إبراهيم... "البط الأسود".. الربيع الإسلامي ضد داعش
بقلم نادية عويدات
(نادية عويدات هي زميل أولى في مؤسسة "أمريكا الجديدة" وهي حاصلة على الدكتوراه في الدراسات الشرقية من جامعة أوكسفورد وسبق لها العمل باحثة في مؤسسة راند. وما ورد في مقالتها يعبر عن رأيها ولا يعكس وجهة نظر CNN)
طغت الصور الوحشية لداعش على عناوين الأخبار الدولية طيلة الأسابيع الماضية، لكن في الدول العربية، هذا التنظيم هو آخر ما يمكن أن يحاول أن يطوّع الإسلام لمصلحة أهدافه. ومنذ تاريخ الإسلام الأول، عادة ما كانت النخب الحاكمة تحاول تطويع الدين لضمان استمرارها في الحكم وخدمة أهدافها ومصالحها، بموازاة مع الرغبة في استخدام أجهزة الأمن التابعة للدولة كلما دعت الحاجة.
لكن ورغم فظاعة فيديوهات قطع الرؤوس التي يدعي التنظيم أنها تنفذ وفقا لتعاليم الإسلام، هناك تنام لأصوات الاعتدال تعتمد إما أساليب الإقناع والمنطق أو السخرية من هذا التنظيم.
وربما تمّ "تعليق" مسار الربيع العربي، ولكنني أعتقد أن ما أدعوه "ربيعا إسلاميا" مازال حيا مستمرا. فهناك نحو نصف مليار شخص يتحدثون العربية في مختلف أصقاع الدنيا لكن ما يطغى على الانترنت بوجهها العربي هو في الأفضل الأحوال محتوى مغرق في المحافظة إن لم يكن مجرد محتوى إسلامي متشدد وهابي.
وفعلا فإنّ ما هزّني خلال سنوات عملي باحثة في مكافحة الإرهاب هي السهولة التي يمكن أن ننفذ بها إلى مئات الآلاف من النصوص المتطرفة. فعلى سبيل المثال، يعرض تنظيم القاعدة تنزيل تسجيلات مصورة وصوتية بالمجان. أنا "الإخوان المسلمون" فيعرضون على مواقعهم بالمجان مكتبات كاملة. وحتى النصوص المحافظة وليست المتطرفة، كان الوصول إليها أسهل بكثير من الحصول على المحتوى العلماني.
في تلك الأثناء، كانت أصوات النزوع إلى الإصلاح مدفوعة للاختباء ويتحرش بها من قبل تحالف سياسي-ديني لا يتوانى عن مواجهتهم. لكن دفع تلك الأصوات إلى الخلف لا يعني عدم الوصول لقراءتها وفقا لدراسة شارك في إعدادها عام 2008 بإشراف مؤسسة "راند" فقد اكتشفنا أنّ الكثير من الكتب الممنوعة كان يتم تبادلها على نطاق واسع رغم صعوبة العثور عليها.
والآن أصبحت مثل هذه النصوص على مرمى كبسة زر واحدة، فما الذي حدث؟
لعبت التكنولوجيا دورا حيويا في ذلك ومن دون مفاجأة، بإتاحة الالتفاف على الرقابة وجعل ذلك أمرا سهلا. وغير بعيد في 2010، عندما كنت أعدّ رسالة دكتوراه حول الفكر الإسلامي الليبيرالي، تجولت بين غالبية مكتبات عمّان بحثا عن كتاب واحد للمفكر السوري صادق جلال العظم والآن هناك نسخ مقرصنة من كتبه سهل الوصول إليها من أبرزها عمله الذي يحمل عنوان "نقد الفكر الديني."
لكن ورغم أهمية ذلك، إلا أن المثير أكثر للإعجاب هو سهولة الوصول إلى نسخ مترجمة من أعمال برتراند راسل وريتشارد داوكينز، بحيث بات من اليسير للفئات الصغيرة من المجمعات العربية أن تطلع على الفكر العالمي وليس الاكتفاء فقط بعالمهم المصغر الذي ترعرعوا فيه.
وفي الوقت الذي توسعت فيه الانترنت لتصبح مصدرا للمواد، إلا أنها أيضا أصبحت وبكيفية مهمة جدا مصدرا للنقاش والجدل حول مسائل كثيرة جدا لاسيما أنّ الجدل يعد أمرا نادرا في فصول المدارس العربية التي تعتمد مناهجها على الحفظ.
وكانت الثورة الدينية واضحة على "فيسبوك" بصفحات مثل "تخاريف البخاري" في إشارة إلى جامع الأحاديث النبوية. وعادة ما يلجأ المشرفون على الصفحة إلى إظهار التناقضات في أحاديث منسوبة للرسول محمد، كما تناقش حقيقة أحداث سطرها التاريخ الإسلامي مثيرة جدلا رائعا مع كل تدوينة وتعليق جديد. ومن دون إهانة الدين، تدعو الصفحة المشاركين إلى اكتشاف الحقيقة بأنفسهم ولأنفسهم وكثيرا ما تم توفير روابط لنصوص أصلية.
كما يوجد منتدى مهم آخر هو منتدى "الحوار المتمدن" الذي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة وإبعاد المساجد عن شؤون السياسة وله مليونا عضو. وتدل جميع المؤشرات على أن هذا الرقم وتنامي مثل هذه الصفحات مرشحان فقط للتزايد وليس الانتكاس خاصة ما الأرقام التي تثبت أن نسبة استخدام مواقع التواصل في الدول العربية تتزايد بمعدل 125 بالمائة سنويا، وهو ما دفع الكثير من المفكرين إلى الاهتمام بالشباب العربي ومجادلتهم في أمور الإصلاح وغيره.
والكثير من هؤلاء من صناع الرأي العام أصبحت لهم قنواتهم الخاصة على يوتيوب بحيث أنهم يصلون بسهولة إلى الشباب. ومن أبرز هؤلاء الطبيب الفلسطيني عدنان إبراهيم الذي ترعرع في غزة، والذي يغور في أعماق الإسلام ليعرض الجوانب التي تثبت أنه دين سماحة وحب وتعددية. وحتى لو كان يقدم دروسه أمام عدد ضئيل في مسجد صغير بفيينا، إلا أنّها تصل عبر الانترنت للملايين الذين يطلعون عليها ويقومون بتبادلها.
كما هناك مجموعة من الشباب المصري، فتيات وفتيانا، ينشطون برنامجا على يوتيوب تحت عنوان "البط الأسود" ومن أبرزهم محمد إسماعيل الذي يدعو إلى حرية الضمير وإقراره في الدستور المصري. ومع وصول البرنامج إلى حلقته السبعين، باتت وسائل الإعلام المصرية تحاور العاملين فيه وملحدين وتنقل تقارير عنه.
ورغم تعدد الثقافات ووجهات النظر إلا أن اللافت للنظر هو تلك المسحة من الإنسانية والعلمانية التي هي قاسم مشترك بين الجميع فضلا عن اطلاعهم الواسع بالفكرين الغربي والشرقي وأسلوبهم الخلاق والجريء في إبلاغ رسائلهم وأفكارهم لجمهورهم العربي.
وتماما مثل أئمة العصور الإسلامية الموغلة في القدم، ينحدر هؤلاء الوعاظ من خلفية علمية فهم إما أطباء أو مهندسون أو محامون أو مدرسو علوم يناقشون شبابا صغارا بأسلوب عادة ما يرفض رجال الدين التقليديون السماح به.
ويعني كل هذا أنّه رغم أنّ الربيع العربي كان مخيّبا بالنسبة إلى الكثيرين من الذين كانوا يحلمون بأن يفضي إلى مزيد من الانفتاح والتسامح إلا أن رؤية الأمور على المدى الطويل يبدو حتى الساعة مشجعا جدا. فمجموعات مثل داعش ربما تحظى بالاهتمام الدولي وهي تستخدم مواقع التواصل لنشر صورها الفظيعة، ولكن الأفق الأحادي الجانب لخطاب الكراهية لم يعد مماثلا لأصوات الاعتدال المتنامية القادرة على التعبير بكيفية أكثر فعالية عندما يتعلق الأمر بنقاش مفتوح وحوار بناء بصدد كسب المعركة داخل أوساط الشباب العربي--نادية عويدات .
والأرقام تشير إلى تراجع نسب الموافقة على تنفيذ الهجمات الانتحارية بين الشباب الأردني مثلا من 57 بالمائة عام 2005 إلى 15 بالمائة حاليا، ولدى الشباب اللبناني من 74 بالمالئة إلى 29 بالمائة حاليا. ولذلك فإنّ الربيع الإسلامي يبدو أكثر دهاء رغم أن نتائجه لن تكون رؤيتها ممكنة بسرعة مثل الربيع العربي، لكن على مدى طويل سيكون له تأثير مستديم فيما يتعلق بتقليص تأثير المتطرفين وتطويع الدول والحكومات للدين.