رأي.. الجنائية الدولية إلى أين بعد فشل محاكمة كينياتا والبشير؟

نشر
10 دقائق قراءة
أحد أنصار الرئيس الكيني يحتفل في شوارع نيروبي بعد حكم المحكمة الجنائية الدولية بإسقاط تهم ضده بارتكاب جرائم ضد الإنسانيةCredit: SIMON MAINA/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم جيهان العلايلي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، وهو لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

تلقت المحكمة الجنائية الدولية ضربتين متتاليتين خلال شهر ديسمبر بعد تصريح المدعي العام للمحكمة، بما يفيد عمليا بالفشل في استكمال أهم قضيتين منظوريتين أمامها، وهي محاكمة الرئيس الكيني أوهورو كينياتا المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في أحداث العنف التي أعقبت انتخابات 2007 في كينيا ومحاكمة الرئيس السوداني عمر البشير الذي كانت المحكمة قد أصدرت ضده مذكرة اعتقال بتهم تشمل جرائم الإبادة الجماعية في إقليم دارفور بغرب السودان في 2009

محتوى إعلاني

ستصبح القضيتان على الأرجح من العلامات الفارقة في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية وهي بعد حديثة العمر نسبيا، وستكون لهما تداعيات كثيرة. أهم تلك الأمور هو التساؤل مجددا حول قدرة المحكمة على الوفاء بنظامها الأساسي في معاهدة روما، بوضع  "حد للإفلات من العقاب "لمرتكبي" أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره". ومن ثم فالإخفاق في محاكمة رئيسين يصيب المحكمة في صميم عقيدتها ويشعل الجدل حول إمكانية ملاحقة ومحاكمة رؤساء الدول حينما يكونون متهمين بارتكاب جرائم كبرى تدخل في اختصاصها. والتساؤل الآخر المرتبط بالأول هو: هل سيمثل نموذج الفشل في محاكمات البشير وكينياتا الاستثناء أم القاعدة؟

اضطرت المدعي العام للمحكمة فاتو بن سودا في ظرف أسبوعين إلى سحب الاتهام في القضية الأولى ضد كينياتا لعدم توافر الأدلة الكافية التي تثبت المسؤولية الجنائية المفترضة عليه وإلى حفظ القضية الثانية بسبب ما وصفته بفشل مجلس الأمن طوال خمس سنوات في التدخل لحث الدول على تسليم المتهمين بمن فيهم الرئيس البشير، وهو ما يعني عمليا أن الرئيسين قد أصبحا أحرارا إلى حين، وإن كان أمر الاعتقال مازال ساريا ضد الرئيس البشير.

***

المحكمة بالنسبة لدارسي القانون الجنائي الدولي هي علامة بارزة في تاريخ الفقه الجنائي الدولي وتجسيدا لسردية تطور هذا الفقه التي تتردد كثيرا في الدوائر الغربية: من محاكم نوريمبرج إلى محاكم لاهاي (مقر المحكمة) ومن الإفلات من العقاب إلى حكم القانون

القضية الفلسفية الأبعد التي يثيرها فشل محاكمة رئيسين أو "إفلاتهما من العقاب" هي  المحاكمات الجنائية الدولية بحد ذاتها كنموذج، مبنى على محاكمات نوريمبرج الجنائية \ سياسية عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. المحاكمات كانت تهدف بتركيزها على إنصاف ضحايا النازي (قفط)  مع عزل الجناة وإنزال أقصى العقاب بهم إلى تثيب دعائم نظام سياسي جديد قائم على القضاء على بنية النظام النازي الألماني. هل يصلح هذا النموذج المبني على عدالة المنتصر كأساس لإنهاء مشاكل "العنف الجماعي" النابع عن أسباب سياسية كما الحال في كثير من الحروب الأهلية بأفريقيا؟ بمعنى آخر: إذا حاكمنا الرئيس البشير على الجرائم الكبرى التي يفترض أنه ارتكبها بما فيها "جريمة الجرائم"  الإبادة، وعوضنا ضحاياه في دارفور هل سيعود السلام والأمن ويرتدع من يفكر بالعدوان مستقبلا- كما يبشرنا منهاج نوريمبرج؟

لا أظن ذلك لأن العنف الجماعي في دارفور له أبعاد سياسية أعمق بكثير من البعد الجنائي. هذه الاعتبارات الهيكلية التي تُسهم في تأجيج دورة الصراع تشمل: تأثير التغير المناخي والتصحر في شمال دارفور وأثره على البيئة والنزوح والقتال، اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب في 2005  الثنائية التي لم تشمل دارفور أو الشرق، الحرب الأهلية التشادية وما خلفته من سلاح وفير ونازحين وافدين على مناطق بها أصلا صراع على الأرض، بترول دارفور ومعادنها،  الحكم غير الرشيد.. إلخ.

عادة ما يستشهد الباحثون في المشهد الإفريقي بنماذج موزمبيق وأوغندا وجنوب أفريقيا كدول نجحت في تحويل النزاعات المستعصية بداخلها بتبنيها مفاهيم للعدالة مغايرة لنموذج نوريمبرج. ويستشهد عالم الأنثروبولوجي الأوغندي محمود ممداني بمفاوضات كوديسا التمهيدية  93-91، التي وضعت أسس إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا - حيث  نَحَت جانبا المسئولية الجنائية لقادة نظام الفصل العنصري وكان أساسها العفو مقابل تفكيك البنية السياسية والقضائية للنظام العنصري هناك

***

على جانب آخر تطرح قضية البشير تحديدا علاقة المحكمة الجنائية بمجلس الأمن، وما إن كانت الأولى يمكن أن تعمل على إنزال العدالة باستقلالية عن المجلس، أم أنها كما يقول منتقديها ليست سوى أداة ضمن مجموعة من الأدوات الدبلوماسية لدى القوى الكبرى

فالمحكمة هي مؤسسة دولية مستقلة قائمة على معاهدة ملزمة فقط للدول الأعضاء فيها، وتعتمد على تعاونهم معها في تسليم المطلوبين بارتكاب جرائم دولية. طبقا لمعاهدة روما، يعتبر مجلس الأمن أحد الجهات الثلاث المخول لها إحالة حالات قد تستدعى تحقيق المحكمة. وكانت قضية دارفور هي الإحالة الأولى من المجلس للمحكمة 2005 بموجب الفصل السابع. وقد وجهت المدعي العام للمحكمة  فاتو بن سودا اللوم للمجلس حين أعلنت أنها لن تواصل التحقيقات في قضية دارفور لأن المجلس لم يتقدم "بحلول عملية"  تساعد على تنفيذ قرار اعتقال الرئيس البشير. ففي ظل علاقات تبدو في أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة بين روسيا والغرب، وتنامى واضح للعلاقات بين روسيا والصين من جهة والسودان من الجهة الثانية، فمن غير المحتمل أن يتخذ مجلس الأمن أي إجراءات عقابية جديدة ضد السودان

أما التداعيات الأوسع على المحكمة الجنائية الدولية من فشل قضيتي ملاحقة رئيسين إفريقيين هي أنها تدخل عام 2015 وعلاقتها مع القارة الإفريقية متردية إلى أبعد الحدود. فالمحكمة منذ أن بدأت عملها في 2002 لم تحاكم سوى الأفارقة ووجهت 36 اتهاما بارتكاب جرائم كبرى تندرج ضمن ولايتها  إلى مسئولين حاليين أو سابقين وإلى متمردين. هذا الحصاد جعل الاتحاد الإفريقي في أكثر من قمة عقدها يتهم المحكمة الجنائية الدولية بأنها غير محايدة ومُسيَسة.  على مدى سنوات حث الاتحاد الإفريقي أعضائه إلى رفض طلب تنفيذ إلقاء القبض على البشير ورفض إتهامات المحكمة الموجهة للرئيس الكيني. وفي القمة الإستثنائية في أكتوبر 2014 هدد القادة الأفارقة بالانسحاب بشكل جماعي من معاهدة روما، وهو وإن لم يحدث إلا أنه كفيل-  باعتبارهم يمثلون ثلث الدول الأعضاء بالمحكمة، بأن يراجع مكتب الادعاء العام الكثير من سياساته، بما فيها إين يفتح تحقيقاته ومستوى الاستهداف وتأثير قراراته على النزاعات الأهلية الدائرة.

***

وإمعانا في مسار التحدي للمحكمة، صوت القادة الأفارقة بالإجماع خلال قمة الاتحاد الاخيرة في يوليو في غينيا الإستوائية لصالح القرار الذي يمنح أنفسهم حصانة من الملاحقة القضائية في الجرائم الكبرى أمام المحكمة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب – التعديل بتوسعة ولاياتها غير سار بعد. وقد شجبت منظمات حقوقية هذه الخطوة وقالت منظمة العفو الدولية قبل اعتماد القرار إنه "يمثل خطوة هائلة إلى الوراء في المعركة الطويلة من أجل المساءلة وحقوق الإنسان في هذه القارة".

ولاشك أن إدارة الرئيس الكيني أوهورو كينياتا لحملته ضد المحكمة الجنائية داخليا وإقليميا أظهرت حنكة ودهاء كبيرين. فهو وإن أبدى تعاونا ظاهريا مع المحكمة، بل وحضر جلسة محاكمته في لاهاي كرئيس دولة متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إلا انه عمل بنجاح تام وبتشجيع من الاتحاد الأفريقي على إفشال مسعى المحكمة. ما ساعد السياسي المحنك إبن مؤسس كينيا، والمتنفذ في عالم المال والأعمال، على سحب البساط من تحت أقدام المحكمة هو تحالفه مع خصمه السابق وليام روتو، والمتهم أيضا من قبل الجنائية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في نفس الأحداث الانتخابية في 2007. أقام الرجلان ائتلاف انتخابي قوى ضم أهم القبائل العرقية التي كانت متقاتلة في انتخابات 2007 ، وفازا في انتخابات الرئاسة في 2013 التي شهد المجتمع الدولي بنزاهتها وخلوها من العنف. كذلك استقوى كينياتا بدعم الولايات المتحدة له، بإعتباره حليفا أساسيا في حربها ضد الإرهاب في شرق القارة، وهي كلها عوامل أفشلت محاكمته أمام الجنائية.

***

سنة 2014 بالفعل كانت سنة كبيسة على المحكمة الجنائية الدولية وهي أمامها عمل شاق لإصلاح توجهاتها. أتمنى ألا تضطر صحيفة النيويورك تايمز في 2015 إلى إعادة فتح منابرها للتحاور حول نفس الموضوع الذى طرحته مؤخرا: هل يجب عمل المزيد لدعم شرعية المحكمة أم أنه يجب التخلص منها؟.

نشر
محتوى إعلاني