نعوم تشومسكي يكتب لـCNN عن العلاقة بين صحفيي شارلي إيبدو وتلفزيون ميلوشيفيتش ومراسلي غزة ومستشفى الفلوجة
بقلم نعوم تشومسكي (أستاذ لسانيات وفيلسوف أمريكي وعالم إدراكي وعالم بالمنطق ومؤرخ وناقد وناشط سياسي. وهو أستاذ لسانيات فخري في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والتي عمل فيها لأكثر من 50 عام. أحدث مؤلفاته هو كتاب "أسياد البشرية." وما يرد في مقاله يعبّر حصرا عن رأيه ولا يعكس وجهة نظر CNN)
إثر الهجوم الإرهابي على "شارلي إيبدو" الذي أدى إلى مصرع 12 شخصا من ضمنهم رئيس التحرير وأربعة رسامين، ومقتل أربعة يهود في متجر منتجات يهودية بعد ذلك بقليل، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي مانوال فالس "حربا ضد الإرهاب وضد الجهاد وضد الإسلام المتشدد، وضدّ كل شيء يمكن أن يهدد الأخوّة والحرية والتضامن."
وتظاهر الملايين من البشر تنديدا بوحشية ضخّمتها جوقة رعب تحت شعار "أنا شارلي." وكانت هناك تصريحات بليغة تلخّص ذلك الغضب صدرت عن زعيم حزب العمل الإسرائيلي والمنافس الرئيس على الفوز بالانتخابات المقبلة والتي قال فيها "الإرهاب هو الإرهاب. ليس هناك طريقتان لتعريفه...وكل الأمم الراغبة في السلام والحرية (تواجه) تحديا هائلا" من العنف الوحشي.
كما أثارت الجريمة سيلا من التعليقات التي بحثت في جذور هذه الاعتداءات الصادمة داخل الثقافة الإسلامية وفتحت نقاشات حول استكشاف سبل لمواجهة موجة القتل التي ينفذها الإرهاب الإسلامي من دون التضحية بقيمنا. ووصفت "نيويورك تايمز" الهجوم "بصدام حضارات" لكن تم تصحيح ذلك من قبل كاتب العمود في "تايمز" أناند جيريذاراداس الذي غرّد قائلا "لم يكن الأمر يتعلق ولن يكون بحرب حضارات أو بينها. ولكنها حرب من أجل الحضارة ضد مجموعات تقف على الطرف الآخر من الخط."
ووصف مراسل الشؤون الأوروبية المخضرم ستيفن إيرلنجر بشكل واضح اليوم العصيب الذي عاشته باريس قائلا "يوم من الصفارات والمروحيات في الجو ونشرات الأخبار المحمومة وحملات الطوق البوليسية والحشود المتأهبة، وعمليات إخراج الأطفال الصغار من مدارسهم من أجل سلامتهم. كان يوما، مثل سابقيه الاثنين، من الدم والرعب في باريس وحولها." كما نقل عن صحفي كان من الناجين من الهجوم قوله إن الأمر كان شبيها بالكابوس. كما نقل آخر وقوع "انفجار كبير وأن كل شيء أصبح مظلما."
لكن هذه التصريحات الأخيرة، مثلما يذكّرنا الصحفي المستقل ديفيد بيترسون- ليست من يناير/كانون الثاني 2015، ولكنها من تحقيق قام به إيرلنجر في 24 أبريل/نيسان 1999، حظي باهتمام أقل، وذلك عندما كان ينقل هجوما "صاروخيا من قوات الأطلسي على مقر التلفزيون الصربي والذي قطع الإرسال عن الراديو والتلفزيون الرسميين" وأدى أيضا إلى مقتل 16 شخصا. وأضاف أنّ "الناتو والمسؤولين الأمريكيين دافعوا عن الهجوم معتبرين إياه جهدا للتقليص من فعالية نظام الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش" وقال المتحدث باسم البنتاغون كينيث بيكون أنّ التلفزيون الصربي كان جزءا من آلة القتل التي يديرها ميلوشيفيتش لا تقل أهمية عن جزئها العسكري."
ساعتها لم تكن صيحات وحشود تتظاهر صارخة "نحن تلفزيون صربيا" كما لم يتم البحث في جذور الهجوم داخل الثقافة المسيحية وتاريخها. وعلى العكس من ذلك فقد أشاردت الصحف بالهجوم وقال المبعوث ليوغوسلافيا الدبلوماسي الأمريكي المعروف ريتشارد هولبروك إن الهجوم الناجح على التلفزيون الصربي مهم بصفة هائلة وهو "على ما أعتقد تطور إيجابي." كما أن هناك أحداثا أخرى لم تدع إلى البحث في جذور تاريخ الغرب وثقافته ومثال ذلك، المجزرة الوحيدة المرعبة والإرهابية التي عرفتها أوروبا والتي نفذها في يوليو/تموز 2011 المسيحي الصهيوني المتطرف والإسلاموفوبي أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصا أغلبهم مراهقون--الفيلسوف نعوم تشومسكي.
وضمن "الحرب على الإرهاب" تم تجاهل أشدّ حملة إرهابية في العصر الحديث والمتمثلة في حملة باراك أوباما للاغتيالات الكونية مستهدفة أشخاصا مشتبه باحتمال أن يرغبوا في إلحاق الضرر بنا يوما ما، مثل الـ50 مدنيا الذين قالت التقارير إنهم قتلوا في قصف قادته الولايات المتحدة في سوريا في ديسمبر/كانون الأول، ولم يتم تناقل الخبر المتعلق بذلك على نطاق واسع--الفيلسوف نعوم تشوسكي .
وفعلا فقد قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بسجن مدير عام التلفزيون الصربي دراغوليوب ميلانوفيتش 10 سنوات لفشله في إخلاء المقر . كما خلصت المحكمة الدولية حول يوغسلافيا إلى أنّ عدد القتلى والمصابين المدنيين أثناء ذلك الهجوم "للأسف كان مرتفعا ولا يبدو متناسبا بشكل واضح."
وتتيح لنا المقارنة بين الحالتين فهما أفضل للهجوم الذي شنّه محامي حقوق الإنسان فلويد أبرامز، الشهير بدفاعه اللامتناهي عن حرية التعبير، على نيويورك تايمز قائلا "هناك أوقات لضبط النفس ولكن وفي الضوء الأكثر عجلة من أكثر اعتداء يهدد الصحافة في الذاكرة الحية (كان يمكن لمحرري صحيفة التايمز) أن يخدموا قضية حرية التعبير بكيفية أفضل من خلال الالتزام بها" من خلال إعادة نشر الرسوم المهينة للرسول محمد والتي كانت دافعا للهجوم.
وأبرامز محق في وصف الهجوم على شارلي إيبدو بكونه "أكبر اعتداء يهدد حرية التعبير في الذاكرة الحية" والسبب في ذلك يتعلق بمفهوم الذاكرة الحية وهي صنف تم صنعه بعناية ليتضمن "جرائمهم ضدنا" وفي نفس الوقت يتم استبعاد "جرائمنا ضدهم" وبدقة، فالأخيرة ليس جرائم وإنما دفاع نبيل على مثلنا العليا، التي تكون في بعض الأحيان عن غير قصد معيبة--نعوم تشومسكي-فيلسوف. وهذا ليس المكان الملائم للبحث فيما تم "الدفاع" عنه عندما تعرض التلفزيون الصربي للهجوم، ولكن مثل هذا البحث هو إعلامي بامتياز.
وهناك عدة صور لهذا الصنف "الجدير بالاهتمام" والذي يطلق عليه "الذاكرة الحية" رسمت إحداها قوات المارينز بالهجوم على مستشفى الفلوجة في نوفمبر/تشرين الثاني 2004، في عملية تعد من أسوأ الجرائم التي تم ارتكابها أثناء الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق.
بدأ الهجوم باحتلال مستشفى الفلوجة العام، في جريمة حرب خطيرة بغض الطرف عن الأسلوب. وتم تناقل الهجوم بكيفية واضحة في الصفحة الأولى من نيويورك تايمز، مرفقا بصورة تظهر كيف أن "المرضى وموظفي المستشفى تم إخراجهم بسرعة من الغرف من قبل جنود مدججين بالسلاح وتم أمرهم بالجلوس أو التمدد على الأرض في الوقت الذي كان فيه الجنود بصدد تقييد أياديهم من الخلف."
لقد تم تبرير ذلك الهجوم وما جرى في المستشفى واعتبر قانونيا حيث أنه تمّ أثناءه "إغلاق ما قال الضباط إنه سلاح دعائي بيد المسلحين: مستشفى الفلوجة العام." ومن البديهي القول إنّ الأمر لا يتعلق هنا باعتداء على حرية التعبير كما أنه ليس مؤهلا ليدخل لائحة "الذاكرة الحية."
هناك أسئلة أخرى ينبغي طرحها أيضا. فمن الطبيعي أن يتساءل أحدهم كيف يمكن لفرنسا أن تحمي حرية التعبير ومثل "الأخوة والعدالة والحرية والتضامن" "المقدسة؟"
مثال ذلك، هل اعتمادا على قانون غيسو، الذي يضمن بفعالية للدولة الحق في تحديد ماهية الحقيقة التاريخية ومعاقبة كل من ينحرف عنها؟ وهل أيضا بترحيل أبناء الناجين "الروما" من محرقة الهولوكوست المساكين نحو مصير أكثر مأساوية في أوروبا الشرقية؟ أم بالمعاملة السيئة للمهاجرين من شمال إفريقيا في ضواحي باريس التي شهدت تحول إرهابيي هجوم شارلي إيبدو إلى جهاديين؟ أم عندما طردت شارلي إيبدو رسامها سيني على خلفية تعليق له اعتبر أنّه يتضمن إشارات معادية للسامية؟ وهناك الكثير من الأسئلة الأخرة تطرح نفسها.
وسيلاحظ أي شخص مفتوح العينين وبسرعة أمورا أخرى حرية بالاهتمام. من ضمنها أنّ أولئك الذين يواجهون "تحديا هائلا" بشأن العنف الوحشي هم الفلسطينيون، ومرة أخرى أثناء الاعتداء الآثم على غزة صيف 2014، والذي قتل فيه الكثير من الصحفيين، في بعض الأحيان وهم داخل سيارات نقل صحفيين واضحة، إلى جانب الآلاف من الآخرين، في الوقت الذي تم فيه تقليص السجن المفتوح الذي تديره إسرائيل إلى أنقاض بذرائع تنهار عند أول تجربة.
هناك أيضا حدث آخر تم تجاهله وهو اغتيال ثلاثة صحفيين في أمريكا اللاتينية في ديسمبر/كانون الأول مما رفع عدد الضحايا في 2014 إلى 31 قتيلا من بين الصحفيين في تلك المنطقة. ففي هندوراس وحدها لقي أكثر من 10 صحفيين مصرعهم منذ انقلاب 2009 الذي اعترفت به الولايات المتحدة ودول قليلة أخرى، ولكن مرة أخرى لم يتم اعتبار ذلك داخلا في باب الذاكرة الحية.
ولن يكون من الصعب الإسهاب. فهذه الأمثلة القليلة تصوّر مبدأ عاما جدا: بقدر ما نلقي اللوم في الجرائم على الأعداء بقدر ما يكون الغضب وجزاء ذلك من جنس ذلك. وبقدر ما تكون مسؤوليتنا على الجرائم-وبالطبع بقدر ما نعمل على وقفها- سيكون نصيب النزوع إلى التجاهل والتغافل والخشية أقل. وعلى عكس التصريحات الواضحة، فالأمر لا يتعلق "بالإرهاب هو الإرهاب. ليس هناك أسلوبان لتعريفه." هناك بالتأكيد أسلوبان لذلك: ما هو تابع لـ"نحن" وما هو تابع لـ"هم". وليس فقط الإرهاب.