ماذا استفادت الديمقراطية من الانتخابات التركية؟
هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
الاستنتاج الأول: وحدها التجربة الديمقراطية هي التي تنمي وتطور وتصقل الوعي السياسي للشعوب وترشد من ممارسة المواطنات والمواطنين للاختيار الحر في مراكز الاقتراع، بحيث تدفعهم تدريجيا بعيدا عن الاختيار إن وفقا للأهواء الإيديولوجية أو للتوظيف الانتخابي للمكون الديني أو للترويج لكاريزما الحاكم وانعدام بدائله والضياع المحقق حال غيابه أو للنزوع لرفض الآخر - العرقي (الأغلبية التركية والأقلية الكردية) والمذهبي (الأغلبية السنية والأقلية العلوية) والجغرافي (سكان الحضر في مواجهة الريفيين، وسكان المدن المطلة على البحار الأكثر انفتاحا على أوروبا في مقابل مواطني هضبة الأناضول أصحاب الثقافة المحافظة) والاقتصادي-الاجتماعي (معدلات الدخول والمستويات المعيشية شديدة التفاوت بين الشرائح السكانية.)
وحدها التجربة الديمقراطية هي التي تحفز المواطنات والمواطنين على البحث عن المعلومات والحقائق لتقييم الحكام المنتخبين انطلاقا من تداعيات سياساتهم وحصاد أفعالهم ومن الوعود التي قطعوها وأنجزوها وتلك التي عجزوا عن الوفاء بها، وانطلاقا من المبادئ والقيم التي ادعوا الالتزام بها والدفاع عنها كسيادة القانون وصون الحقوق والحريات والمواطنة والمساواة والشفافية ومحاربة الفساد والعدالة الاجتماعية وكثيرا ما يختلف بصددها وبشدة خطاب الحكام المنتخبين الرسمي عن الواقع المعاش، وانطلاقا من علاقة كل ذلك بمصالح الشرائح السكانية المختلفة وتفضيلات الناس المتعددة وقدرتهم على مساءلة ومحاسبة الحكام في انتخابات حرة ونزيهة ودورية ودون خوف من تعقب أو قمع أو ظلم.
وحدها التجربة الديمقراطية هي التي مكنت بعض المواطنات والمواطنين الأتراك من تغيير تفضيلاتهم الانتخابية وسحب تأييدهم من رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان وحزبه الحاكم العدالة والتنمية بسبب نواقص جوهرية يرونها في السياقات الاقتصادية والاجتماعية وبشأن سيادة القانون وحقوق الناس وحرياتهم وفي محاربة الفساد ومقاومة نزوع أردوغان لاكتساب سلطات وصلاحيات مطلقة وتعطيل آليات وإجراءات الرقابة والمساءلة والمحاسبة، ولذلك خسر حزب العدالة والتنمية ما يقرب من 11 بالمائة من أصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية 2015 مقارنة بالانتخابات السابقة وفقد أغلبيته المطلقة (40 بالمائة من مقاعد البرلمان هبوطا من 51 بالمائة) وأصبح وللمرة الأولى منذ بداية هيمنته على شئون الحكم والسياسة في تركيا في احتياج للتحالف مع حزب آخر وتشكيل حكومة ائتلافية.
الاستنتاج الثاني: في البلدان التي لم تستقر تجربتها الديمقراطية بعد - ومضامين غياب الاستقرار هنا تشمل 1) كون الأطر الدستورية والقانونية الضامنة لمبادئ وقيم الديمقراطية وقواعد اللعبة السياسية كنشاط تعددي وتنافسي مازالت حديثة العهد، 2) كون سلطات وصلاحيات مؤسساتها التشريعية والتنفيذية المنتخبة لم تترسخ بعد في الواقع المعاش في مواجهة المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية والإدارية التي احتكرت تقليديا القوة وهيمنت على شئون الحكم والسياسة، 3) التهديدات المستمرة الواردة على الفكرة الديمقراطية إن من قبل حكام منتخبين وقيادات أحزاب منتخبة يريدون الاستئثار بالسياسة وإسكات المعارضين أو من قبل نخب بعض مؤسسات وأجهزة الدولة الباحثة عن الاحتفاظ بامتيازاتها وعوائدها دون تغيير ودون رقابة ومساءلة ومحاسبة أو من قبل بعض النخب الاقتصادية والمالية وجماعات الضغط الساعية لتوظيف الحكم والسياسة لخدمة مصالحها الضيقة وبمعزل عن حدود التناقض بين هذه المصالح وبين الصالح العام، 5) تفتت المجال السياسي بسبب تشرذم الكيانات الحزبية أو شيوع الاستقطاب الإيديولوجي / العرقي / المذهبي / الجغرافي فيما بينها وغياب القواسم المشتركة، تمكن آلية الانتخابات الحرة والنزيهة والدورية المواطنات والمواطنين من التحييد والتجاوز التدريجيين لمضامين غياب استقرار التجربة الديمقراطية ومن حمايتها من الإخفاق ومن ثم حماية المجتمع والدولة من الارتداد إلى الاستبداد والسلطوية.
في الانتخابات البرلمانية 2015، ذهب تصويت الناخبين الأتراك بجلاء في اتجاه تحييد وتجاوز بعض مضامين غياب الاستقرار عن تجربتهم الديمقراطية. عوقب الرئيس المنتخب وحزبه الحاكم في مراكز الاقتراع للنزوع الصريح ﻹقرار سلطات وصلاحيات مطلقة للرئاسة، وتمكينها من الاستئثار بالسياسة واحتكار صناعة القرار في الشئون العامة على حساب البرلمان المنتخب والسلطة القضائية المستقلة عبر تمرير تعديل دستوري يستلزم أغلبية خاصة في البرلمان. غير أن الناخبين الأتراك لم يقدموا أغلبية أصواتهم للأحزاب العلمانية المعارضة التي كثيرا ما ساومت أيضا على سلطات وصلاحيات البرلمان، وعلى التجربة الديمقراطية برمتها عبر تحالفاتها مع المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية وبعض النخب الاقتصادية والمالية الراغبة فقط ودوما في احتكار السياسة وصناعة القرار وتسخيرهما لحماية امتيازاتها وعوائدها.
عوقب الرئيس المنتخب وحزبه الحاكم في مراكز الاقتراع على العصف المنتظم بسيادة القانون، والانزلاق إلي ممارسات قمعية انتهكت حقوق الإنسان والحريات، والتورط في صنوف من الفساد والتستر على صنوف أخرى من الفساد وحماية بعض الفاسدين والمفسدين في سبيل ضمان مصالح اقتصادية ومالية غير مشروعة لحزب العدالة والتنمية وللنخب المتحالفة معه. غير أن الناخبين الأتراك لم يمنحوا أغلبية أصواتهم للأحزاب العلمانية المعارضة التي لم تتسم حقب حكمها في العقود التي سبقت صعود العدالة والتنمية - أي في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين وبدايات الألفية الجديدة - لا بعصف أقل بسيادة القانون، ولا بانتهاكات أقل للحقوق وللحريات، ولا بفساد محدود.
عوقب الرئيس المنتخب وحزبه الحاكم في مراكز الاقتراع بسبب الاستعلاء على حق المواطنات والمواطنين في إلزام الحكم بالشفافية وإقرار قاعدتي المساءلة والمحاسبة بشأن سياسات وأفعال المسئولين المنتخبين - وقد كان التبرير المتعجرف من قبل أردوغان ﻹنفاق مبالغ طائلة من الموازنة العامة للدولة على بناء مقر جديد لرئاسة الجمهورية (بسبب ملاحظته لوجود زواحف صغيرة في المقر الحالي) من بين إرهاصات ذلك الاستعلاء التي سبقت الانتخابات البرلمانية مباشرة، وبسبب المبالغة في توظيف المكون الإيديولوجي والديني في الحملات الانتخابية للعدالة والتنمية لتغييب وعي الناس بضرورة تقييم تداعيات سياسات وحصاد أفعال الحكم على نحو موضوعي، وبسبب صناعة الاستقطاب وحرب الهوية اللتين أعلنهما أردوغان على الكيانات الحزبية والسياسية المدافعة عن مواطنة الحقوق والحريات المتساوية والمناهضة للتمييز ضد الأكراد وتجريمه المطرد لها كآخر يستحق الإلغاء. غير أن الناخبين الأتراك لم يعطوا أغلبية أصواتهم للأحزاب العلمانية المعارضة التي لم تدلل خبرات حكمها الماضية على التزام حقيقي بالشفافية وقواعد المساءلة والمحاسبة، ومازالت تقارع المكون الإيديولوجي والديني للعدالة والتنمية بمكون إيديولوجي بديل جوهره القومية التركية المتعصبة والوطنية الشوفينية المتحولة إلى دين وضعي يلغي وجود الآخر العرقي (الأكراد) وينزع عنهم إنسانيتهم ويبرر انتهاك حقوقهم وحرياتهم.
لكل ذلك، أنهى تصويت الناخبين الأتراك وبوعي واضح الأغلبية المطلقة لحزب العدالة والتنمية وأجبروه على التحالف مع حزب آخر أو أحزاب أخرى وفرضوا عليه بسبب الهزيمة الانتخابية إعادة النظر في سياساته وأفعاله التي تهدد استقرار التجربة الديمقراطية. إلا أن التصويت احتفظ للعدالة والتنمية بموقع الحزب الأكبر في الحياة السياسية التركية منعا للتفتت والتشرذم، وحال بين الأحزاب العلمانية المعارضة وبين الوصول إلى مقاعد الأغلبية وهي لم تدلل واقعيا بعد على التزامها الواقعي بالديمقراطية وبالحكم دون تحالفات مع مؤسسات وأجهزة ونخب تريد الانقضاض على التجربة الديمقراطية، ومكن وللمرة الأولى كيان حزبي يتبنى مواطنة الحقوق المتساوية ويناهض التمييز ضد الأكراد من تجاوز حاجز ال10 بالمائة اللازم لدخول البرلمان.
الاستنتاج الثالث: من بين أمور أخرى، تتمثل عبقرية الديمقراطية التي تجعل منها الطريقة الأفضل أخلاقيا وقيميا والأنجع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ﻹدارة ترابطات المواطن والمجتمع والدولة على المديين الزمنيين المتوسط والطويل (دوما ما تتسم بدايات الديمقراطية بأزمات وصعوبات وتحديات جمة) في كونها عبر سيادة القانون والانتخابات الحرة والنزيهة والدورية وقواعد المساءلة والمحاسبة المستمرة، 1) تعطي تدريجيا صوتا علنيا للشرائح والفئات والمجموعات السكانية التي تعاني من الإلغاء والاستبعاد والتمييز والتهميش بفعل احتكار أو استئثار أو سيطرة أو هيمنة أطراف أخرى على السياسة وصناعة القرار العاك واحتفاظها بامتيازات وعوائد واسعة، 2) تسمح تدريجيا لها بالتنظيم الجماعي والبحث عن سبل سلمية وشرعية للمشاركة في السياسة وصناعة القرار العام واختراق السياقات الرسمية وذات المشروعية القانونية للسياسة وللمجال العام بتكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والحضور في التشكيلات النقابية والمهنية والجامعية وفي دوائر أصحاب الأعمال، 3) تفرض تدريجيا على الأطراف المحتكرة أو المستأثرة أو المسيطرة أو المهيمنة على السياسة وصناعة القرار العام التعامل مع من حرموا في الماضي من الصوت والحضور وتلزمهم وإن طال الأمد بالاعتراف ببعض حقوقهم وحرياتهم المشروعة وتنزيل ذلك واقعا دستوريا وقانونيا وسياسيا معاشا، وربما بالمساءلة والمحاسبة عن ماضي الإلغاء والاستبعاد والتمييز والتهميش في إطار منظومة للعدالة الانتقالية - ودون أن يعني ذلك أبدا انتفاء الأزمات والصعوبات والتحديات الكثيرة الأخرى التي تواجهها التجربة الديمقراطية.
وتحديدا هذا الجانب من عبقرية الديمقراطية تجاربها هو الذي أظهره تصويت الناخبين الأتراك في 2015، حين منحت شريحة منهم تصل إلى 12 بالمائة - حتى وإن كان معظمهم من المنتمين عرقيا للسكان الأكراد - صوتها لحزب يدافع عن مواطنة الحقوق المتساوية ويناهض التمييز وصناعة الاستقطاب وحروب الهوية التي تورط لها أردوغان وحزب العدالة والتنمية أو تديرها الأحزاب العلمانية المعارضة.
هكذا ينمو ويتطور وعي الشعوب السياسي، وتنضج التجارب الديمقراطية وتحيد وتتجاوز مضامين عدم الاستقرار، وتدمج بانتظام المزيد من الشرائح السكانية وتتمكن من الانتزاع التدريجي للصوت والحضور والنفوذ وتبتعد عن كل ما يتناقض مع مقتضيات السلمية والعلنية، ويحاسب الحكام المنتخبين ويجبرون على التراجع عن النزوع السلطوي والرغبات الاحتكارية. صندوق الانتخابات أفضل دوما!