مغاربة وجزائرون يتبادلون التحايا عبر حدود مغلقة بين جارين يجمعهما الكثير
نزار الفراوي، المغرب-- إنه أحد أيام أغسطس، ذروة موسم الاصطياف. تأخذ حركة السيارات من وجدة عاصمة الشرق المغربي صوب ساحل السعيدية التي توصف بجوهرة المتوسط شكل قوافل متراصة من السياح الذين يطلبون رطوبة البحر نهارا ولذة السمر ليلا.
فجأة يتغير المشهد على هذا الوادي الصغير الشحيح المياه. فعلى الضفة الأخرى يلوح طريق مواز يعرف هو الآخر حركة ملحوظة، لولا أن العلم الذي يرفرف في أعالي الجبل المتاخم يعزف نشيدا وطنيا آخر. إنها الجزائر إذن. كم هما بعيدان قريبان، هذان الجاران اللذان يعاكسان واقع الجغرافيا وإملاءات الذاكرة.
يتواصل هذا المشهد لكيلومترات قبل أن تقترب الضفتان جدا عند نقطة باتت أشبه بحائط مبكى، مكانا لتلاوة مرثية الوصل الذي كان. إنها منطقة " بين الجراف"، على يمين قارعتي الطريق، في جانبي حدود تكاد تفقد كل معنى، وفي ذات الوقت تكتسي كل طابعها القهري، يضرب مغاربة وجزائريون موعدا غير معلن.
مشهد مألوف أن تتوقف العربات أمام عيون عناصر الدرك هنا وهناك، يدنو العابرون من حاجز صغير على الوادي، ينظرون الى الجانب الآخر. تقول الشابة المغربية التي تقصد الشاطئ ضمن مجموعة من زميلاتها الطالبات: " أتيت من فاس لأول مرة متجهة الى السعيدية. لم أكن أعرف أن المشهد بهذا الشكل. هل هذه الأمتار هي التي تفصل بيننا. مباشرة تصورت جسرا بسيطا مفتوحا في الاتجاهين. يا إلهي ماذا فعلت السياسة". طبعا السياسة تفعل أكثر من ذلك!
كل يحفظ نشيده الوطني، وقد يتعصب لانتمائه القطري. دولة ما بعد الاستقلال عمرها تجاوز نصف قرن في البلدين، وفترات القطيعة شكلت القاعدة في العلاقات السياسية بين الإخوة، لكن قليلون يصمدون أمام درامية الموقف. هذه الأسرة بكاملها، أب وأم وطفلان يلوحون في اتجاه الضفة الأخرى، بابتسامة صافية، ومن هناك تلوح لهم الأيادي. أما بعضهم فلا ينجح في كبح دمع يسيل في أثر الحيرة والعجز تجاه مكر التاريخ.
هذا الموقف الانساني الأخوي لا يخلو بين فينة وأخرى من تصادف مواطنين متعصبين على هذه الجهة وتلك يرفعون شعارات الدولة الوطنية التي قد تحجب مبادئ الاخوة التاريخية، تلك التي تجسدت في زمن غير بعيد حين تقاسم المغاربة والجزائريون رفقة الخبز والسلاح في وجه الاستعمار الفرنسي (أمر طبيعي، فأجيال من البلدين نشأت في زمن مغاير). وحيث أن المغرب ظفر أولا باستقلاله قبل أن تلحق به الجزائر ست سنوات بعد ذلك، فإنه لم يكن غريبا أن تقيم جبهة التحرير الجزائرية مركزها الحيوي في قلب الشرق المغربي، غير بعيد عن مكان الحنين هذا.
ياسين. ب، ابن وهران، عاش هو الآخر هذه اللحظة من الضفة الأخرى. الأحاسيس ذاتها يا " ابن عمي"، يقول هذا الشاب الذي شهد الموقف قبل سنوات في طريقه إلى مهمة بضاحية مدينة مغنية المحاذية للحدود مع المملكة. يقول : " لم أشعر إلا وأنا ألوح بيدي لجماعة مغاربة كانت على الجانب الآخر كأني أحيي أقارب أو أصدقاء"، قبل أن يضيف بإشارة لماحة: " بدا لي الطريقان الموازيان اللذان يفصل بينهما الوادي أشبه بقارعتي طريق سيار داخل نفس البلد. ألم يكن ممكنا أن يكون الأمر كذلك، أن أسبح في بحر السعيدية أو أتبضع من أسواق وجدة، ويستمتع شباب مغاربة بليالي وهران، مثلا؟". لولا أن الاجابة عن هذا السؤال غير ذات أهمية مادامت القدرة على الفعل لا ترتبط بأماني البسطاء.
والحال أن الاغلاق الرسمي للحدود لا يغلقها " تماما". ثمة أواصر سابقة على خط اتفق على ترسيمه السياسيون. عبر الوادي، وادي " كيس"، روابط دم وقربى ومصاهرة، لا تحصى. ويقول أهالي المنطقة إنه لحسن الحظ لا يمكن أمنيا التحكم كليا في حركة البشر عبر هذه الشعاب الوعرة التي لا يتردد بعضهم في تجشمها لصلة الرحم وتجديد عهد المحبة السابقة واللاحقة على إرادة الساسة. وإلا فإن البديل مضن وشاق: بدل أمتار أو كيلومترات قليلة، سيكون عليهم القيام برحلات جوية طويلة عبر مطاري العاصمتين تتبعها رحلات برية أطول. فرغم أن عدم الإطباق الأمني على الحدود يتيح تسلل مافيات تهريب عدد من المواد في الاتجاهين، الا أن بعضهم يقول إن في ذلك " منافع للناس أيضا".
ليس في الأفق ما ينبئ بأن أماني هؤلاء الناس على ضفتي الوادي لها حظ التحقق قرببا. لحسابات السياسة والتنافس الاقليمي اليد العليا. ومن حسن الحظ أن نخبا ثقافية وجمعوية في المغرب والجزائر مازات تحمل هم "الجسر المقطوع".
في الوقت الذي تواصل السياسة إعلاء الحواجز وتكريس حالة الجمود والتنافر بين الجارين، صدح مؤخرا صوت الشعر من مدينة قسنطينة مؤلفا بين قلوب نخبة من شعراء المغرب والجزائر حول كلمة الوحدة والتلاقح بين النخب الثقافية الحاملة لآمال الشعبين في وصل الماضي بالحاضر لبناء المستقبل المشترك.
ففي ختام فعالية شعرية استضافت أصواتا مغربية من أجيال مختلفة، بادر لفيف شعري من البلدين الى اصدار بيان يستدعي الذاكرة النضالية المشتركة التي التأم خلالها شعبا المغرب والجزائر لدحر الاستعمار واستعادة الحرية، داعيا الى ارساء خيار التضامن والوحدة من أجل مستقبل واعد لشعوب المنطقة قاطبة.
والواقع أن الحقل الثقافي والابداعي ظل القاعدة الصلبة للتواصل وحفظ الحس الجماعي الوحدوي في البلدين المغاربيين، بغض النظر عن تقلبات العلاقات السياسية بين توتر غالب وانفراج مؤقت.
المغرب والجزائر لم يتفقا عبر سنوات طويلة على فتح المعبر الحدودي بينهما. وقبل ذلك لم يتفقا أصلا على تسميته. فهو "زوج بغال" مغربيا، وهو "العقيد لطفي" جزائريا.