محاكمة الجنرالات في الجزائر.. تأسيس لدولة ديمقراطية أم مجرّد تصفية حسابات بين الأجهزة؟
تقرير: حمزة عتبي
الجزائر (CNN)-- أخذ الصراع الدائر
بين مراكز القوة في الجزائر منحى آخر، حيث امتد سوط العدالة ليطال
رؤوسا كانت بالأمس بعيدة المنال، فبعد حملة تفكيك جهاز المخابرات
القوي في الجزائر مرورا بإقالة عديد الضباط السامين الذين كانوا قوة
ضاربة مكّنت لهذا الجهاز المتحكم في جميع مفاصل الدولة طيلة
عقود.
وبالعودة إلى كرونولوجيا الصراع، يحفظ التاريخ مقوله للرئيس بوتفليقة
رددها عشية مشاركته في أول انتخابات رئاسية سنة 1999 "لا أريد أن أكون
ثلاث أرباع رئيس"، لتكون بذلك إشارة إلى أن الرجل جاء بخلفية الرجل
الواعي والمدرك لما ينتظره من تحديات ومنافسة في إدارة الحكم، بعد
أزمة أمنية خطيرة عرفتها الجزائر طيلة 20 سنة.
وعلى هذا الأساس، سخّر طيلة فترات حكمه جاهدا من أجل إعادة الربع
المنقوص، وشرع في تنفيذ مخططه سنة 2004 عندما نجح في زرع بذرة الخلاف
بين جهاز الاستخبارات وقيادة الأركان، حيث غذى قوته ونفوذه انطلاقا من
هذا الصراع.
ومع مرور السنين، حافظ الرئيس بوتفليقة على هذا النهج القائم على
تذكية العداوة بين جهاز الاستعمالات بقيادة الجنرال القوي محمد مدين
المدعو توفيق، وقيادة الأركان بقيادة الفريق أحمد قايد صالح، واضعا
ذلك ضمن إستراتجية محكمة التخطيط.
وكان هذا مدخلا نجح فيه الرئيس في تفكيك وإضعاف جهاز المخابرات مرورا
بالتغييرات التي مسّت الأجهزة الأمنية، وصولا إلى إحالة رئيس جهاز
المخابرات الجزائرية الجنرال محمد مدين المدعو "توفيق.على
التقاعد.
كان للتغيرات التي أجراها الرئيس على جهاز الاستعلامات انعكاسها
المباشر على المشهد السياسي في الجزائر، حيث بدأت بالتشكيل ملامح مشهد
سياسي جديد في الجزائر، كانت "محاكمة الجنرالات" أبرز فصوله.
هذه المحاكمات، أثارت الكثير من التساؤلات حول خلفياتها، ما إن كانت
تسير نحو تأسيس لمرحلة جديدة وبناء دولة مدنية مثلما تردد على لسان
أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني، أم هي نتيجة للصراع القائم بين
الرئاسة والجيش وبداية عملية تصفية الحسابات.
وبعد أيام من إدانة القائد السابق لمديرية مكافحة الإرهاب بجهاز
المخابرات الجزائرية الجنرال عبد القادر آيت وأعرابي المدعو "حسان" بـ
5 سنوات سجن نافذة من قبل المحكمة العسكرية بوهران، أصدرت المحكمة
العسكرية بقسنطينة هي الأخرى حكما يقضي بإدانة المدير السابق للأمن
الرئاسي اللواء جمال المجذوب كحال بـ 3 سنوات حبسا نافذة، فيما تبقى
محاكمة الجنرال المتقاعد حسين بن حديد مؤجلة إلى غاية ظهور نتائج
التحقيق.
ولم يكن متوقعا في وقت ليس بالبعيد، أن يُحال يوما ما جنرالات من
الجيش الجزائري على المحاكم العسكرية، نظرا لطبيعة النظام الجزائري
الذي كان الجيش يمسك بزمامه ويعين رؤساء الجمهورية طيلة فترة طويلة
تعدّت العشرون سنة باعترافات صناع القرار أنفسهم.
وبالعودة إلى التاريخ، فقد عرفت الجزائر محاكمتين
شهيرتين لقادة عسكريين على غرار قضية العقيد محمد شعباني الذي حكم
عليه سنة 1963 بالإعدام في محكمة وهران التي حوكم فيها الجنرال
.حسان"، وفي سنة 1993 حكم على اللواء أحمد بلوصيف بـ 20 سنة سجنا
بعدها قرر الرئيس السابق اليامين زروال الإفراج عنه لدواعي
صحية.
وخلّفت محاكمة الجنرالات وصدور أحكام بإدانتهم ردود
أفعال كثيرة كرسالة القائد الأسبق لأركان الجيش الجنرال المتقاعد خالد
نزار، الذي عبّر فيها عن تفاجئه من الحكم الصادر من قبل المحكمة
العسكرية ضد الجنرال حسان، معتبرا أن هذا الحكم "ألغى مسيرة رجل وهب
حياته لخدمة الأمة"، وإنها "إدانة مُجرمة مهينة".
ولثقل الملف وحساسيته، دفعت هذه القضية بإخراج الجنرال
توفيق الذي صمت 25 سنة إلى الخروج عن صمته، بحيث بعث برسالة عبّر فيها
عن ذهوله من الأحكام الصادرة في حق أهم معاونيه ومطالبا بـ " رفع
الظلم الذي طال ضابطا خَدَم البلد بِشَغَفٍ، واسترجاع شرف الرجال
الذين عملوا مثله بـإخلاص تامّ من أجل الدفاع عن الجزائر" .
هذه الرسالة أحدثت زلزالا عنيفا في الساحة السياسية بين
مؤيد لفحواها وبين مؤاخذ ومندد لما ورد من الجنرال الذي عُرف بصمته
طيلة 25 سنة.
وانقسمت الطبقة السياسية حول ملف الجنرال حسان، حيث شكّلت مفارقة
ملحوظة وهي اصطفاف العديد من أحزاب المعارضة إلى جانب الجنرال "حسان"،
على غرار مرشّح الرئاسيات السابق ورئيس حزب طلائع الحريات علي بن
فليس، الذي وصف هذه المحاكمة بـ .التطهير السياسي، يجرى بتهمة
اللاّموالاة".
وفي نفس الإطار، لم تخف رئيسة حزب العمال لويزة حنون في تصريحات صحفية
سابقة، تضامنها التام مع الجنرالات، حيث اتهمت الأطراف التي تقف وراء
هذه المحاكمات بأنها "تسعى وراء تهديم البلاد".
وبالنسبة لحزب جبهة التحرير الوطني وهو الحزب الحاكم في الجزائر والذي
كثيرا ما يردد زعيمه عمار سعداني بعزم الدولة للذهاب إلى تأسيس دولة
مدنية، فقد رفض مكلفه بالإعلام أن يخوض في هذه القضية لما طرحت عليه
CNN بالعربية السؤال، متحججا بأنه منشغل
بقضايا الحزب.
هذا العزوف عن الحديث لـ CNN بالعربية حول هذا
الموضوع، لمسناه أيضا عند أغلب المحللين السياسيين ممن يتصدرون المشهد
الإعلامي، خوفا أن تطالهم لعنة أحد الأطراف المعنية بالقضية ومحاولتهم
الوقوف على بعد مسافة واحدة بين الأطراف المتصارعة خصوصا أن الصراع
بين الرئاسة والجيش لم تنته فصوله بعد.
وإذا ما استدعينا التاريخ بغية فهم معطيات الراهن، لابد من التعريج
على عدة محطات تاريخية كإزاحة المخابرات لبوتفليقة من سباق الرئاسة
بعد وفاة الرئيس بومدين سنة 1979، مرورا بحادثة تقنتورين التي سببت له
حرجا دوليا، وصولا إلى اعتراض الجهاز لترشح بوتفليقة لولاية رابعة،
كلها عوامل تؤكد في رأي الصحفي بجريدة الخبر عثمان لحياني فرضية
"تصفية حساب بين الرئيس والمخابرات".
واستبعد لحياني في حديثه لـ CNN بالعربية، أن
تكون دوافع محاكمة الجنرالات تتعلق بالتأسيس لدولة مدنية، معللا حديثه
بأن "الرئيس لم ينجح خلال ولاياته الأربع في وضع أي أساس للدولة
المدنية، لا دستور مدني ولا مؤسسات تشريعية في مستوى الدولة
المدنية".
واتفق رئيس تحرير جريدة الوطن الناطقة بالفرنسية، عدلان مدي مع زميله
في توصيف المحاكمات بأنها " تصفية حسابات"، متسائلا "كيف يمكن الحديث
عن الدولة المدنية، ونحن نرى عودة الشرطة السياسية بقوة".
ويرى مدي في حديثه لـ CNN بالعربية، بأن "محيط
الرئيس بوتفليقة لا يريد دولة مدنية، هم يريدون تأسيس منظومة حكم
جديدة ينفردون فيها بالسلطة وخلافة الرئيس بوتفليقة"، وتابع كلامه
قائلا "في ظل افتقار محيط الرئيس للشرعية، فهم يستعملون الشرطة
السياسية لفرض منطقهم بالقوة".
أما رئيس تحرير قناة النهار احمد حفصي فكان رأيه مغايرا، حيث اعتبر
ربط محاكمة الجنرالات بتصفية الحسابات أمر "يجانب الصواب في واقع
الأمر "، وقال حفصي لـ CNN بالعربية أن محاكمة
الجنرالات " تكرس دولة القانون وتمدين الحياة السياسية، وعليه طبيعي
أن يحاسب كبار الضباط ".
ومن خلال كل ما سبق، يبقى المواطن الجزائري في موضع المتفرج أمام
تسارع الأحداث، وكأنه أصبح من الوعي ما يكفيه من إدراك أن المعركة لا
تعنيه، بل هي محطة أخرى من محطات الصراع بين صناع القرار.
وربما تكون قضية محاكمة الجنرالات هي واجهة صراع هو في آخر دقائقه
لاختيار من سيكون خليفة للرئيس بوتفليقة، بين رفض تنازل جهاز
الاستخبارات عن لعب دوره في اختيار الرئيس، وبين قوى جديدة تشكلت في
عهد الرئيس بوتفليقة تريد هي الأخرى أن تجرب حظها علّها تنجح في فرض
رئيس يكون من نفس العائلة السياسية لبوتفليقة.