التعايش الديني في العالم العربي.. جربة نموذجا- رأي لإكرام عدنني

نشر
8 دقائق قراءة
تقرير إكرام عدنني
Credit: AFP getty images

هذا المقال بقلم إكرام عدنني، باحثة في علم السياسة من المغرب، ولا يعبّر عن وجهة نظر CNN.

محتوى إعلاني

--أمام عمليات وموجات التطرف والعنف والقتل التي تشهدها العديد من الدول في العالم ويذهب ضحيتها المئات من المواطنين الأبرياء، وتجد أساسها في التعصب الديني الذي يحكم بعض العقليات التي ترى أنها على صواب والآخر كله على خطأ ويجب قتله ومحاربته بما فيه التدين المعتدل، نجد نماذج من التعايش والسلم الاجتماعي يبعث ببعض الأمل حول مستقبل التعايش الديني بالدول العربية، ويتعلق الأمر بجزيرة جربة بتونس.

محتوى إعلاني

تقع جزيرة جربة التونسية في الجنوب الشرقي التونسي، وتعد من بين أكبر جزر شمال افريقيا، وعدا طابعها السياحي الساحر حيث يفضل التونسيون تسميتها بجزيرة الأحلام، تتميز جزيرة جربة بتعايش الديانات داخلها بين المواطنين التونسيين، ويعود هذا التعايش لعوامل عدة وعلى رأسها تعاقب الحضارات على الجزيرة كالحضارة الإغريقية والرومانية والإسلامية. وهذا ما يفسر وجود دور عبادة مختلفة بجزيرة جربة كالمساجد والمعبد اليهودي وبعض المزارات الاباضية.

ومع أن أكثر من 85. من المواطنين التونسيين يعتنقون المذهب المالكي وهو أحد المذاهب السنية الأربع، إلا أن هناك أقليات دينية عددها لا يتجاوز الآلاف تعيش في تونس إلى جانب الأغلبية السنية دون أية مشاكل طائفية وبعيدا عن كل تعصب أو تمييز عنصري، وخاصة وأن تونس التي تبنت النظام العلماني منذ زمن بورقيبة كسابقة في تاريخ الدول العربية، ساعدها هذا النظام في وجود هذا التعايش الديني إلى اليوم.

اليهودية: من أقدم الديانات في تونس

يعد عدد اليهود بتونس بالآلاف بعد أن اختار يهود تونس كغيرهم الهجرة إلى إسرائيل في القرن الماضي، في حين ظلت نسبة قليلة منهم بتونس وتحديدا بجربة مع وجود أقلية بمدينة صفاقس وبحلق الوادي قرب تونس العاصمة،  وكغيرهم من يهود العالم يتميز يهود تونس باهتمامهم بالتجارة والبيع والشراء والادخار، ووضعهم المادي جيد جدا، ويتميزون بتشبتهم بأعيادهم الدينية وتعظيم يوم السبت وكل التقاليد والعادات الدينية اليهودية التي يحرصون على إحيائها بشكل دائم كأعياد الغفران (كيدور) وعيد الصمت (العشايش) وعيد راس السنة (دروش العام)، وعيد الفصح وغيرها من الأعياد اليهودية، كما يلتزمون بالحج إلى معابدهم، ويقيمون الطقوس والعبادات ويختتمونها بالاحتفالات، حيث تكون مثل هذه الملتقيات فرصة للتعارف والزواج وعقد الصفقات التجارية.

وتوجد في مدينة جربة المدارس التلمودية التي تهتم بتدريس أبناء اليهود المقيمين هناك تاريخ اليهود واللغة العبرية من أجل تمكينهم من قراءة الثوراة وتعليمهم الديانة اليهودية ، كما يوجد الكنيس أو المعبد اليهودي المعروف بإسم الغريبة والذي يعد من أكبر المعابد اليهودية في شمال إفريقيا والذي يشهد تجمعات ليهود من مختلف العالم في أوقات محددة من السنة حيث يقومون بما يعرف بالحج إلى كنيس الغريبة لإحياء طقوسهم الدينية.

ويبقى حضور اليهود داخل جربة له دور اقتصادي مهم وتأثير على بقية الطوائف الدينية المتواجدة هناك والتي تأثرت بثقافة اليهود الاقتصادية وببعض عاداتهم الاجتماعية، ولذلك نجد العديد من التجار بتونس ينحدرون من جزيرة جربة أو من مدينة صفاقس التي كان بها نسبة مهمة من اليهود.

 لا يشكل وجود أقليات يهوية في تونس أي خطر على التعايش في الوقت الراهن وتمثل جزيرة جربة نموذجا رائعا من هذا التعايش السلمي والذي يجمع بين طوائف دينية مختلفة تعيش جنبا إلى جنب في جو من احترام المعتقدات والممارسات ودور العبادة.

 وما يلفت الانتباه بتونس هو أن الانتماء السياسي لا يحدده الانتماء الديني، حيث أن الأقليات الدينية خاصة بالجنوب تساند التوجه السياسي الذي يسانده أغلب سكان الجنوب التونسي بغض النظر عن الطابع الايديولوجي لهذا الحزب وذاك، وهو ما يعني أن مبدأ المواطنة يسبق الانتماء الديني عند الأقليات الدينية في تونس. وهذا ليس بالأمر الغريب فيهود تونس مثلا شاركوا في مقاومة الاحتلال الفرنسي ومنهم أسماء مناضلين معروفين في التاريخ التونسي إلى يومنا هذا.

الاباضية: تيار ديني مستقر في جزيرة جربة

على غرار ليبيا والجزائر وعلى خلاف المغرب توجد بتونس أقلية إباضية، وتعد هذه الديانة بمثابة مذهب إسلامي يعتمد على لكتاب ولسنة والرأي ثم الإجماع والقياس والاستدلال وسميت بهذا الاسم نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، غير ن مؤسس المذهب الاباضي هو جابر بن زيد التابعي الجليل. ولا يزال المذهب الاباضي يعرف تواجدا كبيرا في سلطنة عمان وقلة قليلة في ليبيا والجزائر وتونس وزنجبار بتنزانيا الافريقية.

لا يعرف عدد أتباع المذهب الاباضي في تونس ولا توجد إحصائيات رسمية، ولكن وجودهم متمركز بجزيرة جربة التي تحتوي على العديد من البنيات ودور العبادة الاباضية في الأصل والتي تحول بعضها بعد أن خفت حضور الاباضيين في تونس إلى مزارات  أولياء صالحين أو بنايات مهجورة.

ما يميز الاباضيين في تونس هو كونهم انصهروا داخل المجتمع التونسي لدرجة أن العديد من التونسيون لا يعرفون بوجودهم باستثناء سكان جربة حيث حضورهم ملموس، وحيث تمكنوا على الحفاظ على وجودهم إلى اليوم، وخاصة وأنهم يرفعون شعار التعايش والتسامح الديني إلى جانب المسلمين السنة أتباع المذهب المالكي واليهود.

وتجدر الإشارة إلى أن حضور الأقليات الدينية داخل تونس كان لها دور كبير في مرحلة الثورة وما بعد الثورة وداخل المشهد السياسي التونسي، وخاصة منها ما يتعلق بالحفاظ على الطابع العلماني للدولة. فعند مناقشة الدستور الجديد لتونس طرحت فكرة إعلان تونس دولة إسلامية، ولكن وجود أقليات دينية بتونس ورغبة فئة واسعة من الشعب الحفاظ على الطابع العلماني للدولة منذ زمن بورقيبة، تم الاحتفاظ بالفصل القديم من دستور 1959، ونص الفصل السادس من الدستور الحالي على أن "الدولة راعية الدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المسجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها."

وكل التخوفات اليوم هي من الثقافة المتطرفة الوافدة، ومن الشباب التونسي الملتحق بالتنظيمات الإسلامية المتطرفة  أو الذين يوجدون داخل تونس ويؤسسون لثقافة العنف  بكل أشكاله اللفظي والمادي والرمزي ضد كل ما هو إسلامي وخاصة و أنهم يعتبرون بقية المواطنين من ديانات أخرى كفار يجب قتلهم وعدم الاعتراف بهم بل ويرفضون حتى المعتدلين منهم، وهو ما يتطلب العمل أكثر على نشر ثقافة التسامح والتعايش، واحترام حرية المعتقد واحترام الأقليات العرقية منها والدينية. وتكريس قيم المواطنة بعيدا عن إقصاء الآخر ومحاولة طمس وجوده.

 وتبقى الدول العربية معنية بشكل كبير بإشكالية العلاقة بين الديني والسياسي، بالنظر للطبيعة التي يكتسيها الدين داخل المجتمعات العربية وتأثيره القوي على نمط التفكير بشكل يغلب فيه الانتماء الديني على الانتماء للوطن.

نشر
محتوى إعلاني