محبة الله تشمل الكل دون استثناء-رأي لجواد مبروكي

نشر
8 دقائق قراءة
تقرير جواد مبروكي
Credit: Buddhika Weerasinghe/Getty Images

هذا المقال بقلم الدكتور جواد مبروكي، ولا يعبّر عن وجهة CNN بالعربية.

محتوى إعلاني

--يوم السبت الماضي، أنا وزوجتي ذهبنا إلى  جبال صفسطاص "مكان تخيّلي" من أجل الاستمتاع بالطبيعة. على مسارنا ونحن نصعد الجبل، لمحنا كهفا مع لافتة مكتوبا عليها "حكيم، لحل جميع مشاكلك". قادنا فضولنا كمتخصصين في العلوم النفسية  للطرق على باب الحكيم.

محتوى إعلاني

فتح الباب، ظهر على عتبتها رجل محترم، هادئ, بلحية بيضاء مشذبة يرتدي عمامة بيضاء، نظرته حنونة و عطوفة, يشعرك بثقة تامة ، ويقول بصوت حلو وممتع:

- مرحبا، اسمي "ايمي-خادم", ماذا يمكنني أن أفعل لمساعدتكم؟

- أهلا بالسيد الحكيم، نريد التعرف عليكم. ردت زوجتي

- ولكن نحن نعرف بعضنا، ولماذا سنتعارف من جديد؟

- لا أظن بأنني تشرفت بلقائكم من قبل سيدي، وعلى وجهها تظهر علامات الحيرة، معتقدة أن ذاكرتها قد خانتها فجأة.

- نعم سيدتي، نحن نعرف بعضنا البعض بشكل جيد.

- اسمح لي سيدي أن تذكرني بالظروف التي التقينا فيها؟

بقي الحكيم صامتا لبعض لحظات. ثم طلب منا أن ندخل إلى كهفه، جلسنا، ثم قدم لنا شايا لذيذا ساخنا و جلس بدوره أمامنا. بنظرة لينة، وصوت حنون، أردف قائلا:

البشر عائلة واحدة ، وأوراق وأثمار شجرة واحدة. فهل يحتاج أخ للتعرف على شقيقه، بينما هم يعيشون تحت سقف واحد؟

- بالطبع .أجابت زوجتي" مردفة، ولكن لم نكبر تحت سقف واحد.

- أنظري إلي جيدا سيدتي، أي فرق هناك بيني وبين أخيك؟

- علاقة دم.

-مع أخيك تربطكما علاقة دم، و نفس الوالدين أيضا؟

-  هذا معقول سيد.

- والآن سيدتي، عندما تنظرين إلي، هل تعرفينني كإنسان مثلك، أو يلزمك دليل على ذلك؟

- بالطبع يمكن التعرف عليك على الفور كإنسان مثلي.

- لماذا إذن تريدين أن نتعارف، وأنت تعرفينني كإنسان مثلك؟

- صراحة لا أعرف كيف أجيبك.

بدا لي أن زوجتي أصبحت تائهة. رغبت أن أساعدها، ولكن أنا أيضا لا أعرف ما أقوله.

وأردف  "ايمي-خادم" قائلا:

- ربما لأنني أعيش بعيدا عن المدينة؟ ربما لأننا لا نشترك نفس أسلوب الحياة؟ ربما لدي فلسفة  حياة مختلفة؟ ربما لا نشترك نفس الدين ونفس المعتقدات؟

- ربما سيدي.

- إذا قرر أخوك مستقبلا تغيير مدينته أو بلده، أو قرر تغيير دينه أو أصبحت لديه أفكار مختلفة تماما عنك، فهل سيمحى من ذاكرتك لدرجة عدم التعرف عليه؟

- طبعا لا.

- إذن ستتعرفين على أخيك لأنه أخوك، بغض النظر عن معتقداته ونمط عيشه؟

- طبعا سيدي.

- لماذا إذن تولي كل هذه الأهمية للمظاهر، والمعتقدات، واختيارات هذا وذاك، وتنسى أنه يتعلق بإخوانك وأخواتك، وأنك مرتبطة بهم برباط الإنسانية؟  لماذا لا تعترفي بالإنسان كما هو و تنقطعي عن الباقي؟

- أنا متفقة معك سيدي الحكيم، ولكن لماذا شكل البشر جماعات و أصبحوا يتعارفون حسب انتمائهم العرقي، والديني والسياسي، ويتم رفض كل من لا يشاركهم نفس القيم؟

- أيتها السيدة الغالية، أنا أتصور الإنسان مثل مرآة قادرة أن تعكس أشعة جميع الفضائل، إذا سمحت للغبار أن يغطي مرآتي وأهملت تنظيفها، فإنها تفقد قدرتها على عكس ضوء الفضائل. فهل هذا يعني أن مرآتي فقدت وظيفتها؟ أو أن الغبار كان هو السبب؟ 

- طبعا الغبار هو السبب.

- أترين سيدتي العزيزة، عندما أتعلق بالمظاهر (الغبار) فإن مرآة قلبي تصبح شبيهة بقطعة خشب، وتفقد وظيفتها الحقيقية. علي أن أتخلص من غباري الخاص بي، وأن أساهم في إضاءة العالم عبر انعكاس أشعة فضائلي بواسطة مرايا قلوبي.

- اسمح لي سيدي الحكيم، لم أفهم ماذا تقصد بمرآة القلب؟

- إن الإنسان من صنع الله، مصدرنا كلنا من نفس المنبع. فالله كامل، وقد وضع داخل كل منا مرآة، هذه المرآة قادرة أن تلتقط جميع الفضائل الإلهية وتعكسها على الإنسانية جمعاء.

- تريد أن تقول بأن جميع الناس أخيار؟ وكلهم قادرون على تبيان ضوء الفضائل الروحانية؟ وأن الشر غير موجود؟ 

بدت لي زوجتي تائهة وحائرة، كما لو كانت قد اهتزت كل قناعاتها حول الإنسان.

بصوت  رخيم وبنظرة ثاقبة، واصل الحكيم "ايمي-خادم":

-هل أنت, سيدتي، متفقة معي على أن الله هو أصل الخير، ومن الخير لا يأتي إلا الخير، والشر هو دليل غياب الخير؟  ألا أن الظلام هو دليل غياب الضوء؟ إن الخير يكمن فينا، لقد وضعه الله في قلوبنا. إن الله يضيء بخيره علينا. على مرآتي أن تكون مصقولة ونظيفة حتى أستطيع استقبال هذا الخير وعكسه من حولي.

أجابته زوجتي وهي تتلعثم، شاحبة الوجه، وبصوت يرتجف، ناسية كل شيء من حولها،  حتى وجودي بجانبها: 

- ولكن سيدي الحكيم، إذا كانت الأمور هكذا، لماذا كل هذه الحروب، هذه الكراهية بين الناس؟ كل واحد منا يعتبر دينه هو الحق، والآخرون مصيرهم جهنم؟ اشرح لي من فضلكم، لم أعد أفهم شيئا؟ 

بقي الحكيم صامتا، و تعلو محياه ابتسامة لطيفة و مهدئة و نظرة مطمئنة، تاركا أفكاره تنشأ في عقولنا بهدوء.

 بعد دقائق تابع "ايمي-خادم" حديثه: - بسبب الغبار سيدتي. ألغبار, ألغبار سيدتي. ذلك الغبار الذي أسمح له بالاستقرار على مرآتي. فالمصباح وهبت له القدرة على الإضاءة و تبديد الظلام. إذا اكتست المصباح طبقة سميكة من الغبار، فلا يمكنه أن يضيء، وهذا لا يعني بأن المصباح فقد قدرته على إنارة محيطه، وبدأ يعكس الظلام ويؤذينا. فيكفيني تنظيف غلافه الخارجي (مثل المرآة) ليسترجع قدرته الحقيقية وهي فقط إنارة محيطه. فعندما أسمح لغبار أنانيتي وسلطتي وماديتي بالاستقرار على مرآتي أو على مصباح قلبي، فإني أصبح شرسا، أعمى، وأتحرك في الظلام مدمرا كل ما أهده في طريقي.

- أصبحت مشوشة شيئا ما، سيدي، و كيف يمكن تنظيف مرآة أو مصباح قلبي؟

- الله وهبنا المرآة والمصباح، وبعث رسلا متعاقبة ليعلمونا كيف ننظف مرايانا وتطوير قدرات مصابيحنا. علي كإنسان أن أبذل مجهودا من أجل أن أعلم ذلك لأولادي. لكن و منذ القدم, كثير من زعماء الأديان يعلمون مؤمنيهم كيف ينظفون مراياهم لتجلب الخير  " لهم فقط" دون سواهم وليس للعالمين.  الشمس تضئ الكوكب بأكمله بدون أن تميز بين الإنسان والحيوان و النبات والجماد. ومحبة الله تشمل الكل بدون تمييز أو استثناء، فلماذا نريدها أن تشمل فقط المؤمنين بنفس ديانتنا؟

نهض الحكيم ورافقنا نحو الخارج، ثم ودعنا بابتسامة ينبعث منها نسيم من اللطف والطيبوبة، قائلا: "استمروا في صعود الجبل، فالمسار مرسوم بشكل واضح أمامكم".

 

نشر
محتوى إعلاني