جميل مطر يكتب: هيلارى والمكتب البيضاوى.. عقدة وطموح
هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكةCNN
أعترف بداية أنني لم أكن يوما من محبي السيدة هيلارى كلينتون المرشحة عن الحزب الديمقراطى لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. فقدت تعاطفي حين تنازلت عن أمور أساسية تتعلق بأنوثتها وكرامتها فى سبيل الوصول إلى السلطة. لم تكتف بأن تكون قريبة من السلطة، حتى كزوجة لرئيس جمهورية الدولة الأعظم، أرادتها كاملة غير منقوصة ولها وحدها ولا شريك حتى لو كان الشريك شريك حياتها. لا أحبها ولكنى معجب بكثير من صفاتها، أعجبني فيها وما زال يعجبني طموحها الغلاب. أرادت أن تصل إلى منصب الرئيس، فتحملت بصبر نافذ وقوة خارقة تداعيات صعود زوجها الصاروخي وتعدد علاقاته النسائية فتغاضت عنها إلا واحدة تصدت لها دسائس القصر وعيون الإعلام المتربص دائما بسكان البيت الأبيض، حينئذ خرجت إلى الرأي العام تفاصيل مداعبات مارسها السيد الرئيس في مكتبه البيضاوي مع الآنسة لوينسكي المتدربة في الرئاسة.
لم يعجبني أداؤها كوزيرة خارجية، بل أتصور أن هذه المرحلة كانت بين الأسوأ فى التاريخ السياسى للسيدة هيلارى فى تلك الفترة، وهي السنوات بين 2009 و2013 إذ لحق بسمعتها رذاذ تطاير في كل الاتجاهات بسبب تدهور علاقات واشنطن بالقيادة الحاكمة فى إسرائيل، واستمرار التردى فى أوضاع العراق وأفغانستان والفشل المتلاحق فى إخراجهما من حالة الفوضى والحرب. كذلك لم تفلت هيلارى من الاتهام بأنها مع الرئيس أوباما أهملا التعامل مع ثورات الربيع العربي، وبشكل خاص أساءا إدارة وتوجيه الحملة العسكرية فى ليبيا مما تسبب فى سقوط «الدولة» هناك وانتشار الفوضى.
لاحظت، كما لاحظ آخرون راقبوا تطورات الحملة الانتخابية للرئاسة،
أن هيلارى تعمدت إغفال هذه المرحلة من حياتها رغم أنها المرحلة التى
تبوأت فيها أحد أعلى مراكز السلطة فى واشنطن، فضلا عن أنه المركز الذي
حقق لها الاتصالات الأعمق والأوسع بعديد زعماء العالم. واضح
أنها اعتقدت أن الحديث الآن عن المرحلة التى تولت فيها منصب وزيرة
الخارجية قد يفقدها العديد من أصوات التيار المحافظ، فتجنبت هذا
الحديث.
إلا أنني يجب أن أعترف أن هيلاري، بالمقارنة بالرجلين الذين ينافسانها
على منصب الرئاسة، تتمتع بأرصدة وفيرة، ليس أقلها أهمية الدعم
المالي الهائل وربما غير المسبوق من جانب العناصر الأكثر ثراء في
أمريكا والشرق الأوسط. لا شك أيضا أن مؤسسات فى الدولة تتمتع بنفوذ فى
سير العملية الانتخابية اختارت فيما يبدو أن تدعم المرشحة هيلاري
بوسائل شتى. أضف إلى ما سبق أن هيلاري تجسد تجربة فريدة وهي أنها عاشت
في البيت الأبيض زوجة للرئيس، بل ربما الزوجة الأقوى نفوذا فى سلسلة
طويلة من زوجات لم يتركن أثرا يذكر فى الحياة السياسية رغم إقامتهن
الطويلة في البيت الأبيض. يكفي أن نعرف أن السيدة هيلاري تعرف الآن من
زعماء العالم وقادة المجتمع المدنى فى بلاد كثيرة أكثر مما يعرف كل من
السيد ترامب والسيناتور ساندرز.
لا يجوز لنا إغفال الخبرة التى حصلت عليها السيناتور هيلارى كلينتون أثناء تمثيلها ولاية نيويورك فى مجلس الشيوخ الأمريكى، بالرغم من أننا نعرف أنها لم تقدم تشريعا واحدا مؤثرا أو قويا ولم تكن مشاركتها في التشرع على مستوى الشيوخ المخضرمين والنابهين. أعتقد مثل مراقبين آخرين أنها سعت إلى احتلال هذا المنصب وفى ذهنها أنه المحطة الضرورية للخطوة التالية، خطوة الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية وهو ما فعلته.
من أرصدتها الثمينة أيضا التي تميزها عن منافسيها، أنها، أي السيدة هيلاري، استطاعت وبنجاح الاحتفاظ بعلاقات قوية مع تيار المحافظين الجدد وبخاصة مع ديك تشينى وبول فولفوفيتش والسيدة كيركباتريك، وكذلك مع تيار أحب أن يطلق عليه «الليبراليون التدخليون»، أى هؤلاء المدافعون فى الحزب الديمقراطى وفي الإعلام عن الحقوق والحريات إلى حد استعدادهم دعم أى قرار يصدره رئيس أمريكي لفرض النظام الديموقراطي على بلد أو آخر، ومن هؤلاء أذكر بول كروجمان وتوماس فريدمان وفريد زكريا، وفى الوقت نفسه تحظى هيلارى بسمعة طيبة فى دوائر المؤسسة العسكرية بفروعها المختلفة وبخاصة الفروع الأمنية، أخص بالذكر تلك القيادات والشخصيات المتشددة التى تحن بين الحين والآخر إلى الحرب، وهذه تشيد حتى الآن بهيلاري، بنت السابعة والعشرين التي انتفضت على التيار السائد فى أمريكا وقتذاك حين عرضت نفسها على الجيش متطوعة لتحارب فى فيتنام. يلخص جيفري ماكس طبيعة هذه العلاقة بين هيلاري والعسكريين فى تحليل له عن دور هيلارى فى صنع السياسة الخارجية، فيقول "إن ما يسمى بخبرتها فى السياسة الخارجية لا يخرج عن كونه دعما كاملا من جانبها لكل جهد حربي تقوم به دولة الأمن التي يديرها العسكريون والاستخبارات الأمريكية". يعرف الكثيرون أيضا أن المؤسسة العسكرية لا تنسى لهيلارى ما قامت به من أجلها خلال عضويتها فى لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ.
ليس سرا، بل وجاء ذكره فى بعض مذكراتها، أنها بدأت نشاطها السياسى وهى فى سن السابعة عشر كمتدربة فى حملة السيناتور جولد ووتر اليمينى المتطرف للرئاسة فى عام ١٩٦٤، ثم فى حملة السيناتور المتطرف أيضا يوجين مكارثي، ولم يتجاوز عمرها واحد وعشرين عاما. وها هي تتقدم لاحتلال منصب رئيس الجمهورية الأمريكية مدعومة من كافة المؤسسات والقوي اليمينية المتطرفة، وتجري الآن محاولات جادة لزحزحتها قليلا نحو الوسط واليسار المعتدل أملا في امتصاص بعض الطاقة "الثورية" التي أطلق عقالها السيناتور برني ساندرز.
التزمت هيلاري طويلا وكثيرا مبادئ وسياسات التطرف اليمينى، ولكنها تحت ضغط منافسها الديمقراطى برنى ساندرز تجد نفسها الآن مضطرة إلى أن تزايد عليه حتى لا تفقد أصوات الشباب والتيار اليسارى المتصاعد فى بعض الولايات والأوساط الأمريكية، مثال ذلك دعوتها لزيادة الحد الأدنى للأجور ضد رغبة رجال الأعمال والمال، وهم الذين يمولون حملتها الانتخابية، مثال ذلك أيضا تراجعها عن دعم اتفاقية التجارة عبر الباسيفيكي بينما كانت قبل عامين تصفها بالنموذج الذهبى للتجارة العالمية، ومع ذلك لا أحد يعتقد أن هيلارى سوف تفلح خلال المرحلة المتبقية فى الحملة الانتخابية فى وقف انحسار شعبيتها وبخاصة فى أوساط النساء صغيرات العمر، هؤلاء لن يصوتن لها بدافع حق المرأة في أن تكون رئيسة جمهورية لأنهن في هذه المرحلة العمرية لم يلتزمن بعد بقواعد ومبادئ الحركة النسوية. الأولوية لديهن تبقى لحقهن كشباب فى التغيير، ورفضهن لمؤسسة الطبقة السياسية الحاكمة. مثلهن، وهذا هو المتغير الأشد غرابة فى هذه الحملة الانتخابية، مثل كل من ساندرز وترامب، متمردات على نظام الحزبين بشكله الراهن وعلى ألاعيب السياسة الانتخابية التى تحاول أن تفرض عليهن هيلارى كلينتون رغم عيوبها وولاءاتها المعروفة.
سمعت إحداهن تقول، "لن نصوت لمرشح، من جنسنا، لمجرد أنها امرأة، ثم نفاجأ بأن هذه المرأة الرئيس ستلعب دور المعول لهدم الحقوق والحريات ولخدمة مصالح المصارف وقطاع المال والأعمال، امرأة لا تختلف عن نساء خانت قضايا الحرية ومكافحة الفساد مثل جين كيركيباتريك ومادلين أولبرايت وكوندوليسا رايس ومارجريت تاتشر.