جميل مطر يكتب عن تطبيع تركيا العلاقات مع روسيا وإسرائيل: الاعتذارات مدخل لتحولات إقليمية

نشر
12 دقيقة قراءة
Credit: Getty Images

هذا المقال بقلم جميل مطر، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

اعتذرت تركيا لروسيا وسبق اعتذارها اعتذار إسرائيل لتركيا وتلحق بهما في القريب العاجل جدا اعتذارات أخرى، أو هذا على الأقل ما تحاول أن تنبئنا به أجواء الشرق الأوسط ونشاط استخباراتي مكثف. الاعتذاران وكذلك التوقعات المتزايدة عن اعتذارات كثيرة قادمة يقابلها ترحيب ملحوظ في عواصم بعينها وشكوك فى عواصم أخرى وصمت الرضا في عواصم ثالثة وتوجس الاستسلام في مواقع عديدة.

محتوى إعلاني

لم يصدر الاعتذاران بمحض  الصدفة، ولا أظن أنهما صدرا نتيجة فورة شعور بالذنب لدى صانعى القرار فى كل من تركيا وإسرائيل بل وفي روسيا التي تصرفت كطرف معتذر دون أن تبوح بذلك. صدر الاعتذاران، أحدهما منذ أيام معدودة والآخر قبل ثلاث سنوات، كتطور منطقى ضمن تغيرات دولية وإقليمية، بعضها وقع في هياكل الحكم واتخاذ القرار وبعضها الآخر في أمزجة وعقائد حكام عسكريين كانوا أم مدنيين، وهؤلاء ملكيين كانوا أم جمهوريين. كاد الاعتذار، أو النية فيه، تصبح خطوة ضرورية للاستمرار لتنفيذ تغييرات هامة في مجمل السياسة الخارجية والدفاعية لدول الإقليم. غير خاف أن الحاجة لتغيير السياسات كاسحة ولم تكن لتقوى على الوقوف في وجهها دواعي العزة والكرامة والتمسك الحرفي بالمواقف والمبادئ.

صار واضحا أنه لم يعد ممكنا لحكومة هذه الدولة أو تلك الاستمرار فى انتهاج سياسات كانت مناسبة قبل خمسة أو ستة أعوام. لا يحتاج الأمر لعين مجربة أو مدربة للتوصل إلى حقيقة أن هذا الإقليم برمته وبمعظم تفاصيله لم يعد هو نفس الإقليم الذي كان هنا قبل هذه الفترة من الزمن. لا التوازنات الإقليمية ثبتت على حالها ولا أوزان القوة داخل كل دولة على حدة استمرت على ما كانت عليه، حتى الصراعات المزمنة تخلت عن مكانتها وفي حالات معروفة تخلت عن مكانها لأزمات وصراعات وتحالفات جديدة.

دخلت تركيا تجربة حكم حملت في بداياتها شعار "الصفر مشاكل" وفي قول آخر "تصفير المشاكل". وقع في صلب هذه التجربة حلم بعث الهيمنة التركية على الشرق الأوسط، وبخاصة على الجزء من هذا الشرق الأوسط الذي يسكنه عرب. صدمتها أحداث الربيع العربي ولكن سرعان ما استوعبت الموجة الأولي من الصدمة وجربت أن تستفيد من تطوراتها فى دولة عربية ثم أخرى.

رأينا كيف اندمجت تركيا فى الدور الجديد غير منتبهة إلى أن الإقليم فى حال ثورة متعددة الموجات والأبعاد، وإلى أن القوى الساعية للتغيير أكثر عددا وتنوعا من الجماعات والأفراد الذين تصدوا لمهام قيادة هذه الثورات وتصيد سلطة هنا ونفوذا هناك. تغلبت الغطرسة في تركيا تماما كما تغلبت إرادة الانتقام في أماكن أخرى حتى غابت عن الحكام خطورة الحال في الأمن الإقليمي فراحوا يمارسون النقيضين، تشددا وعنفا في جهة واعتذارات في جهات أخرى أغلبها حتى الآن جهات خارجية.    

اختارت أنقرة الفصيل الديني لتراهن عليه كقاعدة حكم، وكان اختيارا قاصرا وإن تصادف أن واشنطن نفسها أوصت به مؤمنة بأنه طريق تركيا بل والإقليم كله إلى المستقبل. لم تنتبه القيادة السياسية في أنقرة إلى أن الطاقة الإيمانية التي كانت تحرك السلطة العثمانية، الآسيوية الطابع والجوهر، ليست هى تماما الطاقة التى تحرك الفصيل الإسلامى المعاصر، فطاقته من مصادر وتجارب عربية وحدوده وإمكاناته وبيئته التي يستمد منها قوته وكثير من مصادر نشأته ورخاوته كلها عربية. عادت تركيا إلى المنطقة العربية بعقلية الإمبريالية الإسلامية الآسيوية بعد قرن من ممارسة الاستبعاد المتعمد والتجاهل شبه المطلق بالمكون العربي بل والجهل الفعلى بدخائل إقليم صار شديد المنطقة.

لم يخطر على بال هؤلاء القادة أن الثورة التي نشبت في العالم العربي والتي يمكن أن تبتلع فى جوفها مؤسسات عتيقة فى العالم العربى وتهز أركان منظومة أخلاق تقليدية وتعيد فرض توازنات قوة جديدة، دولية وإقليمية، يمكنها أيضا أن تبتلع أحلام قادة تركيا الجدد، وأظن أن هذا هو ما حدث. كان حلم العثمانيين الجدد أن تمتد الذراع التركية فتحيط بكل الإقليم العربي فإذا بالإقليم العربي يمد بثورة ربيعه أذرعة عديدة اخترقت تركيا مهددة وحدتها واستقرارها ومفجرة من جديد حرب الترك والأكراد.  

لم يكن أردوغان يحاول خداع أحد حين غادر حوار التليفزيون الشهير محتجا على تصرفات إسرائيل فى غزة. فعل ما فعل لأنه كان قد اندمج فعلا في الدور الذي اختاره لتركيا، طرفا في الصراع العربي الإسرائيلي، مضحيا بمصالح دفاعية وتجارية ودبلوماسية أثمرها تحالف بلاده الوثيق بإسرائيل منذ نشأتها. توقعت وقتها، أنا وغيري، أنه سوف يندم فى يوم قريب، يندم على ما فقده من مزايا حلفه مع إسرائيل، ويندم على اندفاعه وما جلبه على نفسه وتركيا من متاعب.  

بقدر ما كان ضروريا للنظام الحاكم في تركيا استعادة رضاء إسرائيل، كان ضروريا لإسرائيل استعادة أواصر علاقات القوة مع تركيا تمهيدا لمرحلة تراها إسرائيل قادمة لاريب فى ذلك. يعلم القادة الإسرائيليون، وأظن أنهم استمعوا إلى ما يؤكد معلوماتهم، أن حلف الأطلسي صار جاهزا لاستقبال إسرائيل في صورة أو أخرى، وأن تركيا صارت أقل من رافضة وأكثر من مرحبة بموقع لإسرائيل في الحلف، يعلمون أيضا، أن الدول العربية الفاعلة فى الشرق الأوسط، أو من تبقى منها فاعلا، تدرك الآن أن أمن طبقاتها الحاكمة، وبخاصة بعد ثورات الربيع وبعد رفع حصار الغرب عن إيران، أصبح فى أمس الحاجة إلى ضمان دعم إسرائيل، فإن لم يكن ضمان الدعم المباشر، فليكن ضمان التحييد الايجابى. أما الدعم غير المباشر فيأتي عن طريق حلف تركي إسرائيلي، مدعوم بدوره من الخارج بحلف الأطلسى، ومن الداخل بعلاقات دفاعية استخباراتية ثنائية مع دول عربية.

لقد تبادل الطرفان الإسرائيلي والتركى الغزل لمدة غير قصيرة، ولم يكن الاعتذار الشكلي الذي قدمته إسرائيل لتركيا في عام 2013، سوى الخطوة الرمزية الضرورية للإعلان الرسمى عن انطلاق مرحلة جديدة فى الأمن الإقليمى للشرق الأوسط، لا تكتمل إلا بالتفاهم مع الطرف الدولى العائد بقوة إلى الشرق الأوسط، وأقصد روسيا.

المراحل نفسها تكررت في العلاقة الروسية التركية للوصول إلى اعتذار. تلتقي المساعي الثلاثية، أي الإسرائيلية التركية الروسية، عند الحاجة العاجلة لصياغة فلسفة لحلف إقليمي تقوده دول إقليمية غير عربية، بمساعدة شكلية ومالية، من دول عربية. هدف الحلف السيطرة على توازنات القوى الداخلية في الشرق الأوسط. لم تكن سهلة، فيما أتصور، طريق مفاوضات استعادة العلاقات الروسية التركية، إذ كانت تجري في وقت اختارته الولايات المتحدة وألمانيا لتوسيع نطاق أنشطة الحلف الأطلسي فى أراضى على حدود روسيا، وفي وقت تستعد القوى الكبرى والإقليمية لاستعراض قوة في شنغهاي، حيث تجتمع قمة العشرين في أول تظاهرة تحمل بذور شكوك تعمقت حول نجاعة النظام الرأسمالي بشكله الراهن في تحقيق تنمية مستدامة، بل وتحمل بذور حرب باردة جديدة وحاجة الغرب للظهور بمظهر قوة في أعقاب إعصار الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي.

لتركيا علاقة بالناتو لن تضحى بها، فهى ضمان الأمن ضد مغامرات روسيا الخارجية، وهى رصيد قوة ينفعها فى علاقاتها المضطربة بالاتحاد الأوروبى. ولإسرائيل علاقة عضوية بالناتو، أوشكت على أن تجعلها علاقة عضوية مباشرة، وهي العضوية التي قد تثبت فى المستقبل أنها جددت دماء إسرائيل، وصنعت واقعا جديدا فى منظومة أمن الشرق الأوسط. ولروسيا مصلحة مباشرة في الارتباط بمشاريع غاز شرق االمتوسط وتسويات ما بعد حروب الارهاب.

كان واجبا، وبسرعة، أن يتطور التنسيق الاستخباراتي بعد أن تأكد أن النشاط الإرهابى ضد كل من روسيا وتركيا ينطلق من قواعد وبأيادي تعيش على أراضى الدولتين، ثم أنه كان قد ثبت لقيادتي الدولتين أن التنسيق بينهما فى كل ما يتعلق بالعلاقة مع إيران أمر حيوى لاقتصاد وأمن الدولتين التركية والروسية، إيران تستقوى على تركيا بعلاقاتها مع روسيا، وتستقوى على روسيا بأهمية موقعها بالنسبة لتركيا وبخاصة فى المسألة الكردستانية والعراقية والسورية، وأهمية دورها في صنع مستقبل النظام الإقليمي الخليجي.

من ناحية أخرى، تظل روسيا حريصة كل الحرص على أهمية إبقاء البحر الأسود خارج صراع القوة بينها وبين حلف الأطلسى رغم عضوية تركيا فى الحلف. غير خاف على كل حال أن أصوات فى الحلف عادت تضغط على تركيا لتساهم فى استكمال حصار روسيا في البحر الأسود كالحادث في بحر البلطيق.
يخطئ من يعتقد أننا كمصر وكعرب، لأسباب معلنة أو خافية، نقع خارج هذه الترتيبات. إسرائيل تتحرك الآن فى أفريقيا وبنشاط غير مسبوق وفى منطقة، هى بحكم التعريف العسكرى، المجال الحيوى للدفاع عن أمن مصر وأسلوب حياتها، تفعل هذا استعدادا للعودة إلى المنطقة لاستكمال ترتيبات إقامة منظومة دفاع وأمن إقليمى جديد فى الشرق الأوسط، بمساعدة شكلية أو ضمنية من دول عربية.  يخطئ أيضا من يظن أن وجود تركيا فى غزة، فى شكل مساعدات إنسانية أو غيرها، يجعل من غزة منطقة محايدة بين سيناء وإسرائيل، أو يخرج مصر نهائيا وأبديا من الصراع العربى الإسرائيلى، ويخطئ من يتصور أن تدخلات إسرائيل الجارية والقادمة فى إعادة رسم خريطة سوريا يعفي مصر من مسئوليتها وأرصدتها الاستراتيجية في منطقة الهلال الخصيب. ويخطئ من يعتقد أن الأنشطة الجارية حاليا لإثارة الفتن والثورات في أقاليم إيرانية تسكنها أقليات لن يساهم في إشعال فتن مماثلة بين أقليات تعيش في الدول العربية والآسيوية المتاخمة، وبعضها له امتدادات في دول الجوار لروسيا.

ما زلت، رغم ما أراه وأسمعه وأخشى عواقب استمراره، أعتقد أن مصر لن تتحمل أن تقوم أحلاف إقليمية في غيابها أو بدون مشاركتها فيها أو وكما يكشف تاريخنا العسكري والسياسى، بدون مقاومة من جانبها.

نشر
محتوى إعلاني