أحمد عبد ربه يكتب عن "انقلاب تركيا المدني" والنفق الذي دخلت فيه البلاد
هذا المقال بقلم أحمد عبد ربه، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي CNN.
لم يكن فشل محاولة الانقلاب العسكري على نظام حكم الرئيس رجب طيب أردوغان ليلة الجمعة ١٥ يوليو سوى مقدمة لتعضيد وتسريع عملية الانقلاب المدنى التى بدأها أردوغان نفسه قبل عامين منذ أن قرر ترك رئاسة الوزراء ليتم انتخابه رئيسا فى نظام سياسى مازال يعطى لرئيس الوزراء فى مقابل رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة.
سبق وكتبت فى "الشروق" عن سلسلة الإجراءات غير الاعتيادية التى بدأها أردوغان منذ العام ٢٠١٤ على هامش زيارة بحثية لتركيا فى صيف ٢٠١٤، وشرحت فى إحدى تلك المقالات "ماذا يحدث فى تركيا؟ أردوغان وأوغلو" والمنشورة فى هذه المساحة بتاريخ ٧ سبتمبر ٢٠١٤ عن تلك العلاقة الغريبة التى ستنشأ بين الرجلين ومستقبل التغيرات في تركيا من خلالها.
منذ ذلك الحين واصل أردوغان إجراءاته غير الديموقراطية وعزز ذلك نجاح حزبه فى تشكيل الحكومة بعد إعادة الانتخابات العام الماضى ليمضى الرجل غير مباليا بالانتقادات الحادة التى تعرض لها داخليا وخارجيا، كما تمكن من استخدام ورقة اللاجئين بنجاح فى مناورة دول الاتحاد الأوروبي وهو ماجعل بعض المراقبين يتوقعون إنقلابا عسكريا قريبا.
فى مقابلاتى البحثية فى ذلك الصيف كان العلمانيون والإسلاميون على السواء يتوقعون نجاح أردوغان التام فى السيطرة على الجيش إلا عسكرى سابق بالجيش التركى ومحاضر جامعى يدعى "مصطفى أولكيكار" كان رأيه أن ما يحدث فى تركيا ليس سيطرة مدنية على المؤسسة العسكرية ولكنه سيطرة "لحزب العدالة والتنمية" على الجيش بعد صفقة سياسية واقتصادية توقع وقتها أنها لن تصمد كثيرا. ورغم أن تحليل أولكيكار كان غير مدعوم من معظم من التقيته إلا أن توقعاته تحققت بشكل جزئى خلال العامين الماضيين وصولا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة الأسبوع الماضى.
لكن ماذا تعنى تلك المحاولة الفاشلة بالنسبة لتركيا ؟
أحاول الإجابة من منظور علم "العلاقات المدنية العسكرية" والذى تطور كثيرا خلال العقود الأربعة الماضية. حدث ذلك التطور من مجرد التركيز على ظاهرة الانقلابات العسكرية والبحث عن سبل تجنبها باعتبار أن "السيطرة المدنية" على المؤسسة العسكرية هى غاية المراد، إلى الحديث عن علاقة تفاعلية تفاوضية بين المدنيين والعسكريين من أجل السيطرة على ـأو تقسيم السلطة، ثم إلى قفزة لاحقة استندت على ثلاثة تطورات فى فهم الباحثين المتخصصين.
التطور الأول: أن الهدف ليس فقط تحقيق "السيطرة المدنية" على المؤسسة العسكرية، ولكن أن تكون تلك السيطرة "ديمقراطية" وهو مايعنى أن تمكن المدنيين من السيطرة ليس نهاية المطاف لأن هذه السيطرة قد تحدث من خلال مدنيين غير منتخبين ديمقراطيا أو منتخبين ديمقراطيا ولكنهم لا يتبعون اجراءات ديمقراطية ومن هنا فيستوى حكمهم مع حكم المؤسسة العسكرية لأنه غير ديمقراطى فى الحالتين مثلما هو الحال فى دول مثل روسيا أو الصين والتى يتواجد بها سيطرة مدنية ولكنها غير ديمقراطية.
التطور الثانى: أن التركيز لم يعد فقط على العلاقات المدنية العسكرية، ولكنه أصبح على العلاقات المدنية-الأمنية، وكان ذلك التطور بسبب اكتشاف حالات لدول كان التزام المؤسسة العسكرية دورها الدفاعى وعدم انشعالها بالشأن السياسى ليس ضامننا للديمقراطية، حيث سيطرت مؤسسات أخرى أمنية ومعلوماتية مانعة الديمقراطية من التأسيس.
أما التطور الثالث والأخير فكان متعلقا بتغيير مقاييس حساب السيطرة المدنية بحيث أصبح هناك قبولا واسعا لقيام المؤسسة العسكرية لأدوار تتجاوز الدور الدفاعى التقليدى، بحيث أصبحت دراسات العلاقات المدنية العسكرية تتقبل قيام الجيوش بأدوار تتجاوز المهام التقليدية كمحاربة الإرهاب ومكافحة الجريمة المنظمة وحفظ الأمن الداخلى فى حالة الاضطرابات، فضلا عن دورها فى الكوارث الطبيعية.
بالعودة إلى الحالة التركية فقد فشلت المحاولة الانقلابية لكن لايعنى هذا سوى أن تركيا إما دخلت فى حلقة مفرغة من الانقلابات العسكرية المتوالية والعنف السياسى والاغتيالات التي قد تطال كبار مسئوليها وعلى رأسهم أردوغان نفسه أو أنها دخلت فى مرحلة سيطرة مدنية ولكنها غير ديمقراطية من خلال تأسيس ديكتاتورية أرودغانية تجهز تماما على مستقبل الديموقراطية والتعددية.
الاحتفاء المبالغ فيه بسرديات من قبيل "وعى الشعب التركى الذى رفض الانقلاب" أو "تعلم أردوغان الدرس للعودة إلى الديمقراطية" أو "نهاية عصر الانقلابات العسكرية فى تركيا" غير دقيق وقد يعبر عن أمنيات طيبة ولكنها تتجاهل طبيعة الصراعات السياسية الصفرية والتي لا مجال فيها لحلول وسط أو تفاهمات وتعتمد بشكل أساسى على التخلص من الخصم بأسرع وقت وبلا هوادة لأن هذا الخصم لو نجا سيقوم بدوره من الانتقام وهكذا! وقد كان توقعى الشخصى صباح محاولة الانقلاب الفاشلة أن أردوغان سيتخذ المزيد من الإجراءات القمعية وهذا ما حدث بالفعل، ولكن لماذا يتصرف أردوغان على هذا النحو وما هو مستقبل تركيا السياسى على هذا النحو ؟
اعتمد نموذج أردوغان الناجح على ثلاثة محاور رئيسية، الأول هو تمكنه من تحقيق طفرة اقتصادية لم تكتفى بالأرقام الكلية ولكنها اعتمدت على توزيع ناجح رفع من مستوى الطبقات المتوسطة وما دونها، والثانى هو تمكنه من السيطرة على المؤسسة العسكرية بحيث التزمت الأخيرة ثكانتها ولم تتحرك بدون إذن مدنى من أردوغان أو البرلمان، وثالثها تمكنه من الحفاظ على نظام ديمقراطى تعددى تمكن من إيجاد أرضية مشتركة للعلمانيين والإسلاميين فى إطار احترام الدستور والقانون.
إذن فمجرد تحرك الجيش أو بعض وحداته فإن هذا وبغض النظر عن فشله يمثل اهتزازا لأحد أهم ثوابت حكم وانجازات أردوغان، لأن نجاح سيطرة المدنيين الديمقراطية لا تعنى تمكنهم من هزيمة الانقلاب ولكنها تعنى عدم السماح للانقلابات أن تحدث من الأساس، لأنه وفى خبرات مشابهة فإن محاولات الانقلاب سواء كللت بالفشل أو النجاح لا تعنى سوى الدخول فى حلقات مفرغة من عدم الاستقرار السياسى الذى يحتاج إلى سنوات طويلة من أجل العودة إلى الاستقرار واستعادة العملية الديموقراطية مرة أخرى.
***
إذن فمحاولة الانقلاب على أردوغان لا ينبغى أن يتم النظر إليها كحركة تصحيحية لإعادة المسار الديمقراطى كما إدعى المنقلبون فى الساعات الأولى للمحاولة، كما أن هزيمة الانقلابيين أو إفشالهم لا تعنى بالمثل استعادة الديمقراطية، لأن فرص الأخيرة كانت كبيرة فى النجاح قبل أن تتحرك بعض وحدات الجيش أما وقد تحرك الأخير فإن هذا يعنى ببساطة انتهاء فرص الوفاق المدنى المدنى فى تركيا والتى تمكن أردوغان من تحقيقها بشكل كبير فى الفترة من ٢٠٠٢ وحتى الفترة الثالثة لرئاسته الحكومة، إذن فما هى سيناريوهات المستقبل التركى خلال السنوات الخمس القادمة؟
رغم سيولة الوضع الإقليمى وهو مايشكل عبئا كبيرا فى إمكانيه رسم سيناريوهات للمستقبل التركى فيمكن أن نرسم سيناريوهين كبيرين: الأول أن يعيد الجيش أو إحدى وحداته محاولة الانقلاب على أردوغان، لو نجحت المحاولة فسيعنى هذا انسحاب شكلى للجيش من الحكم المباشر مع استمراره فى رسم قواعد اللعبة من الكواليس عن طريق تحريك المدنيين والأحزاب غير الإسلامية لتبدو وكأنها تحكم فى الواجهة مع احتمالات كبيرة لتغير الدستور، ولو فشلت المحاولة مجددا فلن يعنى هذا سوى الدخول فى المزيد من عدم الاستقرار السياسى الذي قد يشهد اغتيالات سياسية وعمليات إرهابية وحلقات مفرغة من العنف والعنف المضاد التى قد تنتهى بمزيد من الانقلابات وهكذا، أما السيناريو الثانى أن يتمكن أردوغان سريعا من عملية السيطرة على مفاصل السلطة وهو ليس أمامه نحو هذا الطريق سوى مزيد من الاعتقالات والتوقيفات والانتقام من كل الخصوم الحاليين والمحتملين ليتمكن هو وحزبه من تحقيق سيطرة مدنية ولكنها ستكون بكل تأكيد غير ديمقراطية.
فى تقديرى لن تتغير هذه المعادلة إلا لو تخلص حزب العدالة والتنمية نفسه من أردوغان وتمكن من تصعيد كارزما جديدة إلى مقاعد القيادة تتمكن من تحقيق مصالحة سياسية شاملة قائمة على تفاهمات مع كل الفاعلين السياسين والمؤسسات الدولاتية بما فيها الجيش والقضاء وهو احتمال ضعيف الآن.
فرص نجاة الديمقراطية تصبح ضئيلة للغاية طالما تحرك الجيش من ثكناته بهدف السيطرة على السلطة بغض النظر عن فشل أو نجاح هذا التحرك، وهذه خبرة مهمة للمنشغلين بمستقبل الديمقراطية نظريا أو عمليا ليعرفوا أن العلاقات المدنية المدنية تكون فى الكثير من الأحيان أهم بكثير من الانشغال بالعلاقات المدنية العسكرية، لأن نجاح الأولى شرط لنجاح الثانية، أما فشل الأولى فلا يعنى سوى المزيد من التدهور الديمقراطى سواء كان ذلك على يد مدنيين أو عسكريين لأن النتيجة فى النهاية واحدة ألا وهى انفتاح باب الصراعات الصفرية الانتقامية، وهذا فى تقديرى النفق الذى دخلت فيه تركيا حتى لو حاول أردوغان تجميل الوضع لاحقا.