سليمان عبد المنعم يكتب عن مشروع قانون JASTA: "الانقلاب" القانوني الذي يقوده الكونجرس الأمريكي

نشر
12 دقيقة قراءة
Credit: Alex Wong/Getty Images

هذا المقال بقلم سليمان عبد المنعم، أستاذ ورئيس قسم القانون الجنائي بكلية حقوق الإسكندرية، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة أدناه لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

بموافقة الكونجرس الأمريكي على مشروع قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" JASTA  منذ أيام يبدو أننا مقبلون على متابعة أهم انقلاب قانوني يقوده مجلس تشريعي وطني على المبادئ القانونية المتعارف عليها في العالم كله. يكاد الكونجرس الأمريكي في واشنطن يعيدنا إلى عصر روما القديمة التي قدَّمت للعالم فيما مضى قانون الشعوب. لكن قانون روما القديمة قدّم للعالم آنذاك أهم المبادئ القانونية التي ما زالت حتى يومنا هذا مصدراً تاريخياً للكثير من النظم التشريعية. أما مشروع قانون JASTA الأمريكي فهو يمثل خروجاً على الحصانات السيادية للدول، ومعايير الاختصاص القضائي، وشخصية المسؤولية القانونية، ويكاد يجعل من الكونجرس الأمريكي مجلساً تشريعياً للعالم وليس للولايات المتحدة الأمريكية فقط.

محتوى إعلاني

يجيز مشروع قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" لضحايا الأعمال الإرهابية التي تقع في الولايات المتحدة الأمريكية (والمقصود تحديداً تفجيرات ١١ سبتمبر الإرهابية) أو لعائلاتهم مقاضاة حكومات أجنبية (والمقصود تحديداً المملكة العربية السعودية)  للحصول على تعويضات مالية عن الأضرار الناشئة عن هذه الأعمال الإرهابية. من الناحية الإجرائية ما زلنا حتى كتابة هذه السطور أمام مشروع قانون وافق عليه الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب لكن لم تكتمل بعد شروط نفاذه كتشريع صادر واجب التطبيق. ما زال يحق للرئيس الأمريكي أن يعترض على هذا القانون مستخدماً سلطته الرئاسية في النقض ( الفيتو ). وهذا ما أعلنه البيت الأبيض بالفعل منذ فترة. وفي هذه الحالة فإنه يتوجب إعادة عرض مشروع القانون على الكونجرس مرة أخرى للموافقة عليه بأغلبية ثلثي أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب كل على حدة. فإذا تحققت هذه الموافقة المشروطة يصبح التشريع نافذاً برغم اعتراض الرئيس الأمريكي.

وفي انتظار معرفة المصير النهائي  لهذا المشروع بقانون فإنه بذاته يثير العديد من التساؤلات القانونية والانتقادات القانونية. لندع إلى مقال لاحق الحديث عن التساؤلات المتعلقة بالخلفية السياسية التي ينطلق منها مشروع JASTA . أما الانتقادات القانونية، موضوع هذا المقال، فهي تدور حول سؤال مركزي، خطير ومقلق، لا يمكن القفز عليه. السؤال هو هل يُنصّب الكونجرس الأمريكي من نفسه مجلساً تشريعياً دولياً أو كونياً يصدر تشريعات ملزمة لدول العالم ويمنح المحكمة العليا الأمريكية ولاية تطبيق هذه التشريعات في مواجهة دول أجنبية ذات سيادة؟

وجه الخطورة في تشريع JASTA لا ينحصر فقط في مخالفته لمؤدى الحصانات الدبلوماسية المعترف بها للدول ذات السيادة وفقاً للقانون الأمريكي نفسه الذي لا يجيز مقاضاة حكومة دولة أجنبية أمام المحاكم الأمريكية. لكن وجه الخطورة يتمثل أيضاً في الأساس القانوني المتهافت الذي يبني عليه تشريع JASTA المسؤولية القانونية لحكومة أجنبية أمام القضاء الأمريكي. فهذا التشريع يجيز مساءلة الأفراد، والكيانات، والدول التي تُسهم عن عمد أو تقصير في توفير الدعم أو الموارد المادية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة لأشخاص أو منظمات بما ينطوي على خطر ارتكاب أعمال إرهابية تهدد أمن مواطني الولايات المتحدة الأمريكية، أو أمنها الوطني،  أو سياستها الخارجية أو اقتصادها. وبصرف النظر عن الصياغة الفضفاضة التي يتسم بها هذا المشروع بقانون وأنه يسوي بين العمد والتقصير، وبين الدعم المباشر وغير المباشر ( وفقاً لأي معيار أو دليل يمكن استخلاص الدعم غير المباشر مثلاً؟ ) فإن السؤال الجوهري هو على أي أساس قانوني يمكن مساءلة ( دولة ) عن أفعال إرهابية ارتكبها ( أفراد ) يحملون جنسية هذه الدولة؟ نفهم مثلاً مساءلة الشخص الإرهابي نفسه عن أفعاله الإرهابية، أو مساءلة منظمة أو جماعة إرهابية عن أفعال ارتكبها أعضاء تنظيميون تابعون لها ويعملون باسمها أو لحسابها. مثل هذه الفروض مفهومة ومبررة وفقاً للمبادئ القانونية التي تجعل الشخص مسؤولاً عن أفعاله، أو تجعل المتبوع مسؤولاً عن أفعال تابعيه، على الأقل فيما يتعلق بالتزامه بجبر الأضرار الناشئة عن فعل المتبوع.  

ما يصعب فهمه أو تبريره هو اعتبار ( الدولة ) نفسها مسؤولة قانوناً عن أفعال غير مشروعة لمجرد أن الذي ارتكب هذه الأفعال يحمل جنسيتها. لا يشير تشريع JASTA إلى المملكة العربية السعودية، ولا إلى أية دولة عربية أو غير عربية أخرى. لكن العالم كله يدرك أن السعودية هي المقصودة تحديداً بهذا القانون. ونحن كعرب يجب أن ندرك أيضاً أن دولنا  هي المرشح الأوفر حظاً لتطبيق أحكام هذا القانون عليها، إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد، هي مسألة وقت لا أكثر.

***

وجه الانتقاد ومصدر الريبة في  التشريع الأمريكي أن السعودية ( المقصودة أساساً بهذا التشريع ) ليست مدرجة ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب لا وفقاً للقانون الأمريكي، ولا وفقاً لأي قرار دولي أممي.  بل أنه حتى في فرض اعتبار دولة ما راعية للإرهاب مسؤولة عن تعويض الأضرار الناشئة عن أفعال إرهابية يتعين إقامة الدليل على شكل ما من أشكال التبعية القانونية أو التنظيمية أو الاستخباراتية للإرهابيين إلى هذه الدولة وفقاً لنظرية المتبوع عن أفعال التابع. مثال ذلك أن ينتمي هؤلاء الإرهابيون إلى أحد الأجهزة الأمنية أو الاستخباراتية للدولة راعية الإرهاب، أو أن يقوموا  بذلك بأمر أو تعليمات منها، أو بتنسيق أو تقديم دعم محدد ما. هذا ما لا يبدو متوافراً  في حالة الدولة السعودية التي تعرضت على مدى سنوات ممتدة إلى إرهاب تنظيم القاعدة الذي ينتمي إليه منفذو تفجيرات ١١ سبتمبر الشنعاء.

الملاحظ أنه  لم يخل الأمر في السنوات الأخيرة من ظهور تلميحات وإشارات عن دور ما للسعودية في تمويل أنشطة إرهابية لتنظيم القاعدة، لكن هذه مسألة يجب تدقيقها وفض الخلط فيها بين الجوانب القانونية والسياسية والاستخباراتية بل والإعلامية أيضاً، فكل هذه الجوانب تختلط بشدة، وعلى خلفيتها تدور حرب ما صامتة وغامضة في الشرق الأوسط. وما يُقال عن وثيقة ال ٢٨ صفحة السرية ( وهي لم تعد منذ أيام سرية ) التي قدمتها الاستخبارات الأمريكية للكونجرس فهي لا تبدو دليلاً على إدانة السعودية بأي معيار من المعايير القانونية. فقد اعترض جون برينان نفسه مدير ال CIA على نشر هذه الوثيقة لعدم دقة ما تضمنته من معلومات. ثم أن لدى العالم كله، والعرب خصوصاً، ذكريات مؤلمة عن الوثائق الكاذبة وغير الدقيقة  التي اعتمدت عليها قوات التحالف لتبرير غزوها للعراق في العام ٢٠٠٣، والتي كانت سبباً لأن يقدم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير اعتذاراً عنها منذ شهور قليلة.

***

مظهر التناقض وربما الدهشة أن مسايرة منطق مشروع القانون الأمريكي JASTA يعني إمكان مقاضاة حكومة أي دولة في العالم بسبب الأضرار الناشئة عن الجرائم أو الأفعال غير المشروعة التي يرتكبها الأفراد الحاملون لجنسيتها بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية نفسها!! هذا التشريع  يعني إذن فيما لو قُدِّر له النفاذ القانوني أن يُطبق على دول مثل أمريكا وبريطانيا وغيرهما عن جرائم الحرب وإرهاب الدولة في العراق وأفغانستان واليمن. وهذا ما ألمح  إليه الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه من أن إصدار مثل هذا القانون ليس في مصلحة الولايات المتحدة. صحيحٌ أن الكونجرس الأمريكي  بدا حذقاً في صياغته لمشروع القانون حين استبعد من نطاق تطبيقه الأضرار الناشئة عن أعمال الحرب  Acts of war، لكن هذا الحذق القانوني لا يمنع من إمكان تطبيق القانون على جرائم الحرب Crimes of war  التي تدرك أمريكا بنفسها أنها ليست بمنأى عن أن تطالها هذه الجرائم وإلا ما امتنعت  حتى اللحظة عن الانضمام إلى نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية.   

في نفس السياق بدا ملحوظاً ما أثاره مشروع القانون الأمريكي من تساؤلات ومخاوف الأوساط القانونية الدولية حول إمكان تطبيقه على الحكومة الألمانية بشأن ما عُرف بخلية هامبورج التي كان ينتمي إليها الإرهابي محمد عطا أحد المتورطين المتهمين في تفجيرات ١١ سبتمبر. في هذا السياق أيضاً يبدو القياس غير جائز على سابقة مسؤولية ليبيا عن تعويض ضحايا تفجير طائرة شركة بان أمريكان فيما يُعرف بقضية لوكيربي. ففي هذه القضية ثبت قيام علاقة التبعية بين منفذي تفجير الطائرة وبين دولة القذافي آنذاك حيث تبين أن أحد المتورطين "عبد الباسط المقراحي " كان عميلاً للاستخبارات الليبية.

***

خلاصة الأمر أن هناك حقيقتين،  قانونية وسياسية، يكشف عنهما مشروع القانون الأمريكي JASTA. الحقيقة الأولى أن هذا المشروع يؤذن بانقلاب قانوني عالمي فيما لو قدر له النفاذ وحصل على أغلبية ثلثي أعضاء الكونجرس عند إعادة التصويت عليه. إذا حدث ذلك سنشهد نوعاً جديداً وطريفاً من الحروب هي حروب التعويضات القانونية الدولية ستكون الغلبة فيها للدولة الأذكى والأقوى التي توجد لديها أرصدة مالية وممتلكات مغرية لدول يسهل الإيقاع بها. الحقيقة الثانية والمرتبطة بما سبقها أن الكونجرس الأمريكي يحاول إلصاق مسؤولية التفجيرات الإرهابية  بالدول التي يحمل الإرهابيون جنسيتها إذا كانت دولاً ثرية تمتلك فوائض مالية كبيرة داخل أمريكا بحيث يمكن استيفاء التعويضات التي قد يُحكَم بها من هذه الأموال. ربما لم تكن أمريكا لتنشغل كثيراً بإصدار مثل هذا التشريع لو أن إرهابيي ١١ سبتمبر كانوا ينتمون إلى دول فقيرة.

في نهاية المطاف من حق أمريكا أن لا تنسى آلام وهموم  ضحاياها الأبرياء وعائلاتهم، لكن هل من حق الكونجرس  أن ينصاع إلى ضغوط وجماعات المصالح وهي تسعى للابتزاز ولو كان الثمن القيام بانقلاب قانوني عالمي ربما ترتد نتائجه يوماً إلى أمريكا نفسها؟  

نشر
محتوى إعلاني