اكتشاف جماجم جزائرية مخبأة بباريس يعيد النقاش حول الاستعمار الفرنسي للجزائر
الجزائر (CNN)-- أخذت قضية استرجاع جماجم شهداء المقاومة الجزائرية من متحف التاريخ الطبيعي بباريس حيزا كبيرا من النقاش الدائر هذه الأيام في الجزائر، بعدما بثت إحدى القنوات الفرنسية تقريرا عن هذا الملف، لتعيد النقاش مجددا حول أحد أبرز ملفات الذاكرة التي تصور تاريخ الاستعمار الفرنسي الأسود في الجزائر، وعلى ضوء ذلك تجدد مطلب حساسيات المجتمع المدني الداعي إلى ضرورة استعادتها.
ويرجع الفضل في تفجير القضية واكتشاف جماجم رموز المقاومة الجزائرية التي كانت مخبأة في متحف الإنسان بباريس حيثُ يمنع على زواره مشاهدتها، إلى الباحث الجزائري علي فريد بلقاضي الذي وجدها في مخازن داخل المتحف في مارس 2011، وصرح الباحث للقناة الفرنسية 24 أنه "من المفروض عدم ترك هذه الجماجم في هذا المكان لأنه ليس مناسبا لهؤلاء الثوار الذين ناضلوا من أجل قضية وليسوا بلصوص أو سراق".
ووفقا للتقرير ذاته، فإنه يوجد بالمتحف المذكور، أكثر من 18 ألف جمجمة، منها 500 تم التعرف على هويات أصحابها، بينهم 36 قائدا من رموز المقاومة الجزائرية قُطعت رؤوسهم من طرف قوات الاحتلال الفرنسي في الفترة ما بين (1850 - 1949)، أين تم عزلها في خزائن بعيدا عن أعين زوار المتحف.
وتعود هذه الجماجم الـ36 ، حسب وكالة الأنباء الجزائرية، إلى شهداء المقاومة الشعبية على غرار "محمد لمجد بن عبد المالك" المعروف باسم "شريف بوبغلة" والشيخ "بوزيان" قائد مقاومة الزعاطشة (بالجنوب الشرقي الجزائري 1849) و"موسى الدرقاوي" و"سي مختار بن قويدر الطيطراوي" و "عيسى الحمادي" وكذا القالب الكامل لرأس "محمد بن علال بن مبارك" أحد مساعدي "الأمير عبد القادر الجزائري".
ويعتقد أستاذ التاريخ بجامعة سطيف، محمد بن ساعو، في حديثه لـCNN بالعربية، أن آثار الجرائم الفرنسية في الجزائر طيلة قرن ونصف "تأبى أن تتوارى عن الأنظار"، مشيرا إلى أن "مسألة جماجم المقاومين الجزائريين دليل مادي آخر يؤكد لا إنسانية المستعمر الفرنسي".
وكانت السلطات الجزائرية ممثلة في وزارة المجاهدين، قد عبّرت عن عزمها استرداد الجماجم، إذ صرح وزير المجاهدين الطيب زيتوني، في شهر يوليو/تموز من العام الجاري، أن "إجراءات استرجاع جماجم الشهداء الجزائريين من فرنسا من أجل دفنها في الجزائر تشهد تقدما"، مؤكدا "أننا سنسترجعها من أجل دفنها في الجزائر بلد الأبطال والشهداء"، وموّضحَا أن هذا الملف يتكفّل به بالتنسيق مع وزارة الشؤون الخارجية.
وجاءت هذه التصريحات ردا على سؤال كتابي كان قد وجهه نائب عن حزب العدالة والتنمية لخضر بن خلاف لوزير المجاهدين نهاية شهر يونيو/حزيران الفارط، جاء فيه "أن المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس مازال يحتفظ إلى اليوم بعظام وجماجم عشرات الثوار الجزائريين "، متهما السلطات الجزائرية بـ"التقاعس"، بسبب "غياب مبادرة من السلطات الجزائرية للتكفل باسترجاع هذا الرفات منذ قرن من الزمن".
ورغم تأكيدات وزير المجاهدين بأن وزارة الشؤون الخارجية وسفارة الجزائر بباريس باشرتا اتخاذ الإجراءات التي تتعلق بملف استرجاع جماجم ورفات شهداء المقاومة الشعبية التي تحتفظ بها فرنسا في مخزن متحف الإنسان بباريس، إلا أن المتحدث باسم الخارجية الفرنسية "رومان نادال" كشف أن فرنسا في انتظار طلب رسمي من الجزائر بخصوص ملف استرجاع جماجم الشهداء الجزائريين".
وتشير السلطات الجزائرية إلى أنها لم تسترجع إلا 2 بالمئة من أرشيفها في فرنسا، وتؤكد الجزائر في كل مناسبة وطنية، أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا "لن تكون عادية وطبيعية دون تسوية ملف الذاكرة وأن الجزائر لن تتراجع عن مطلبها باسترجاع كل أرشيفها من فرنسا".
وفي هذا الإطار، يقول الأمين العام لمنظمة المجاهدين، سعيد عبادو، لـCNN بالعربية: "على فرنسا إعادة كل ما أخذته من الجزائر بما في ذلك جماجم رموز المقاومة الجزائرية، ففرنسا ارتكبت أبشع الجرائم، وعليها اليوم أن تعيد للجزائريين جماجم أبناءها"، موضحا أن منظمة المجاهدين تريد "استرجاع أي شيء أخذته فرنسا حتى ولو تعلق الأمر بإبرة".
وسبق لستة عشر مؤرخا جزائريا وفرنسيا، بينهم "محمد حربي" و "بنجامين ستورا"، قد دعموا مبادرة جمع توقيعات التي أطلقها الأستاذ الجامعي براهيم سنوسي للمطالبة بإعادة جماجم المقاومين الجزائريين المحتفظ بها في متحف الإنسان بباريس، ويقول سنوسي لCNN بالعربية، أن الحملة بلغت 29 الف توقيع والهدف منها "التذكير بتاريخ الاستعمار"، وكذا "المساهمة في تسليط الضوء على إحدى الصفحات المظلمة من تاريخ فرنسا".
وعلى المنوال ذاته، يتحدث رئيس جمعية مشعل الشهيد، محمد عباد، لـCNN بالعربية، عن حملة جمع التوقيعات التي تم إطلاقها تزامنا مع الذكرى 54 لاسترجاع السيادة الوطنية، مبرزا أن هذه الحملة وُزعت على البرلمانيين والمنتخبين المحليين، وسيتم تسليمها إلى وزارة المجاهدين ووزارة الخارجية، بغية المطالبة باستعادة الجماجم وإعادة دفنها في مقابر الشهداء في الجزائر، خصوصا أنها لرموز المقاومة الجزائرية.
وفي ندوة صحفية للأمين العام لحزب التجمع الديمقراطي، أحمد أويحي، مؤخرا، الذي يشغل أيضا منصب مدير ديوان رئاسة الجمهورية، تساءل عن جدوى استعادة الجماجم ودفنها في الجزائر لـ"تُنسى كما نسي الشهداء"، ملمحا في حديثه عن "إبقائها بباريس لتبقى شاهدة على جرائم فرنسا في الجزائر".
وضمن هذا السياق، يقول المؤرخ بن ساعو إن البعض يسوق لقراءة أخرى في هذه المسألة، وهي الإبقاء على الجماجم في متحف الإنسان بفرنسا لتكون شاهدة على الجرائم الفرنسية، غير أننا نرى بأن "الاستعمار بوصفه فعلا يتنافى والقيم الإنسانية لا يحتاج إطلاقا لإثباتات تدينه"، لذلك من الضروري "استعادة الجماجم وإعادة دفنها في جنازة لا نقول رسمية، إنما تليق بالتضحيات التي قدموها في سبيل الانعتاق والتحرر".
ولم تطرح السلطات الجزائرية القضية على مستوى المحاكم الدولية، ويعزو الحقوقي بشير مشري، ذلك إلى أن "الاستقلال تمت مصادرته"، من طرف من أسماهم بـ "حزب فرنسا الذي صار يتحكم في دواليب السلطة في الجزائر"، وهذا ما يثبت حسبه قوله " عدم وجود أي نية من طرف المسؤوليين الجزائريين للإقدام على هذه الخطوة الجريئة"، واصفا إياهم، في حديثه لـCNN بالعربية، بأنهم "لا يريدون معاداة فرنسا".
و"رغم وجود إثباتات على جرائم فرنسا باعترافات قادة الجيش الفرنسي في مذكراتهم، على غرار " كافينياك" الذي كان يطالب جنوده بمحاسبته بجماجم الجزائريين، ناهيك عن الدلائل القطعية والمتمثلة في الجماجم الموجودة في متحف باريس، غير أن السلطات الجزائرية لازالت تتماطل في مقاضاة السلطات الفرنسية أمام المحاكم الدولية بسبب جرائمها المرتكبة في حق الجزائريين إبان الفترة الاستعمارية"، على حد تعبير المحام مشري.