رشيد جرموني يكتب.. المشهد السياسي بالمغرب بعد الانتخابات البرلمانية

نشر
13 دقيقة قراءة
تقرير رشيد جرموني
Credit: AFP getty images

هذا المقال بقلم د. رشيد جرموني، أستاذ جامعي من المغرب، ولا يعبّر عن وجهة نظر CNN.

محتوى إعلاني

أولا: في السياق الجيواستراتيجي للانتخابات التشريعية 

محتوى إعلاني

شكلت محطة الاستحقاقات التشريعية لـ7 أكتوبر 2016، مرحلة فاصلة في تاريخ المشهد السياسي المغربي، وذلك لأهمية ودلالات وسياق هذه الاستحقاقات. فهذه المحطة جرت في ظروف جيواستراتجية جد معقدة، من حيث عدم قدرة العديد  من الدول في المنطقة العربية، من الخروج من مرحلة من عنق الزجاجة، و استمرار حالة من الضبابية والترقب والتردد، سيدة الموقف (مصر، تونس).

بل أكثر من ذلك، هو الفشل الذي عرفته تيارات الاسلام السياسي في العديد من هذه الدول، من حيث وجود عراقيل موضوعية وذاتية حدت من فعلهم السياسي، ومن ثم التدبيري، مما ولد شبه ردة ديمقراطية حقيقية في هذه التجارب. كل ذلك  أثر على راهن ومستقبل هذه المنطقة، الشيء الذي حدا بالبعض للحديث عن دخول المنطقة  مرحلة عصيبة في تاريخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والذي لا يمكن التنبؤ بمآلاته ومستتبعاته المستقبيلة.  

بيد أن التجربة المغربية، تبقى استثناء فريدا في المنطقة، نظرا لحيثيات يصعب الاحاطة بها كلها في هذه المحاولة، لكن يبدو أن النسق السياسي المغربي بكل مكوناته وفاعليه (التحالف الموضوعي بين الملكية والاسلاميين) لتمكين الانتقال الديمقراطي بعد مرحلة بروز موجات الاحتجاجات الشعبية ممثلة في حركة 20 فبراير. ورغم أن المعطيات والمؤشرات التي صاحبت مرحلة الاعداد للانتخابات البرلمانية الحالية، وأثناءها أظهرت وجود بوادر ردة ديمقراطية في المغرب، والحنين لمرحلة بائدة في تاريخه تميزت بتزوير إرادة الشعب لصالح بعض الأطراف والفئات والنخب.

وقد تجلى ذلك في العديد من المؤشرات، ( تقليص العتبة، شطب المواطنين الذي تم تسجيلهم في سنة 2015 ، التدخل المخزني للحيلولة دون ترشح بعض الأشخاص لصالح حزب العدالة والتنمية وحزب التقدم والاشتراكية، بلاغ الديوان الملكي ضد أمين عام حزب التقدم والاشتراكية...). وغيرها من التدخلات والمبادرات التي بينت أن هناك نية للتحكم لضبط مخرجات هذه الانتخابات بما يخدم مصالحه ورهاناته.

ولم تتوقف هذه الوسائل البائدة والغبية،- في آن واحد في تأكيد وجود مخطط رهيب للسلطوية في تحقيق ردة ديمقراطية حقيقية-،ولهذا  مثلت  مسيرة المهزلة بالدار البيضاء إبان عشية انطلاق الحملة الانتخابية ،وقرب انتهاء ولاية السيد عبد الاله بن كيران، أبشع أحداث  سنة2016، بل أبشع أحداث المغرب المعاصر. لأنها أعلنت عن ميلاد حزب جديد 'حزب المقدمية والشيوخ"، والذي لديه برنامج وحيد  وأوحد، محاربة وإضعاف المسار الديمقراطي. 

لكن بالرغم من كل هذه الحيثيات والسياقات، ستفرز صناديق الاقتراع عن وجود تحول نوعي في سلوك المواطنين اتجاه هذه المبادرات. فما هي طبيعة المشهد السياسي المغربي الحالي؟ وما هي دلالاته الكبرى؟ وأخيرا ما هي تداعياته على النسق السياسي برمته؟

ثانيا: قراءة تحليلية في نتائج الاستحقاقات البرلمانية 

في اعتقادنا الشخصي، أنه لا يمكن قراءة نتائج الاستحقاقات الاخيرة، بدون التوقف عند نسبة المشاركة التي أوصلتها وزارة الداخلية إلى (43 بالمائة)، وهي نسب أقل ما يقال عنها، إنها معاكسة للمسار الديمقراطي الذي بدأ بعد مرحلة التصويت على دستور 2011. إذ الحاصل أن هذه النسبة تعكس في العمق أزمة ثقة في السياسة وفي الأحزاب السياسية وفي المسار الديمقراطي ككل.

ولهذا فإنني أشفق على بعض "المحللين"  الذين تتم استضافتهم في القنوات التلفزية المغربية أو العربية، ويعبرون عن مواقف تتماهى مع الخطاب الرسمي، ويعتبرون "أن هذه النسبة تبدو جد معقولة"، والحاصل أن التأمل في مجمل الأرقام وفي هذه النسبة، يكشف بالملموس وجود أزمة حقيقة في العمل السياسي. فعدد المسجلين في اللوائح الانتخابية بلغ حوالي 15 مليون، والذين شاركوا في الانتخابات لم يتجاوز 6 ملايين في أحسن التقديرات. ماذا يعني ذلك؟ 

رغم كل انتهاج الحذر التحليلي في مثل هذه الوقائع، لكن ذلك لا يمنع من التأكيد أن العديد من المواطنين والمواطنات المغربيات، لم يذهبوا للتصويت بسبب أو بآخر، ربما عدم الاهتمام باللعبة الديمقراطية، وربما عدم الثقة في هذا المسار وربما  و ربما، لكن المؤكد أن تراجع النسبة عن آخر استحقاقات برلمانية لسنة 2011، يبين أن هذه الفئات المجتمعية، بدأت تنظر للنسق الساسي وللفاعلين فيه، بنوع من عدم الرضى، خصوصا وأن هناك العديد من المؤشرات التي بعث بها المتحكمون في هذا المشهد، من قبيل الانزال المكثف للمقدمية والشيوخ في الحملة الانتخابية، والانزال المكثف للمال، واستغلال السلطة لنفوذها لتوجيه إرادة الناخبين.

هذا بالإضافة إلى كونهم –ربما- لم يلمسوا تغيرا في أداء الحكومة الحالية وأن هامش تحركاتها بقي دون المستوى المطلوب. مما يعطي الانطباع أننا أمام لعبة او مسرحية ليس إلا، وبالتالي لماذا التصويت؟

 من جهة أخرى، يكن الوقوف عند النتائج الرقيمة في قراءة نتائج هذه الاستحقاقات،- (حزب العدالة والتنمية بـ 125، حزب الأصالة والمعاصرة، بـ102، حزب الاستقلال، ب46، حزب التجمع الوطني للأحرار بـ 37، الحركة الشعبية، بـ27، حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بـ 20، الاتحاد الدستوري بـ 19، التقدم والاشتراكية بـ 12، حزب الحركة الديمقراطية الشعبية بـ 3، فيدرالية اليسار الديمقراطي، بـ 2)-، باستخلاص العديد من الملاحظات. 

أولها: تمكن حزب العدالة والتنمية من الظفر بعدد من المقاعد جد معتبر وبشكل خاص ارتفاع في الكتلة الناخبة التي صوتت على هذا الحزب. مما يؤكد أن الحزب في مسار تطوري وليس تراجعي (للإشارة فقط، حصل الحزب في العديد من الدوائر على اكثر من مقعد، وهي ظاهرة تستحق المتابعة والتمحيص). 

ومن بين القراءات التي يمكن تقديمها على الانجاز التاريخي لحزب العدالة التنمية، هو توفره على مجموعة من الاعضاء والمتعاطفين، وبشكل خاص بعض المواطنين والمواطنات المغربيات، الذين لم ينخرطوا في هذا الحزب، لكنهم يعتبرونه مشروعهم المجتمعي، بل أكثر من ذلك، (أملهم المستقبلي). ولعل وجود هذه الكتلة الحرجة –كما نسيمها في السوسيولوجيا- تؤكد أنها العنصر الحاسم في كل عمليات التغيير والإصلاح الديمقراطي. ولهذا فإن توصيف هذه الكتلة ب"المواطنة النشطة"، له ما يبرره منهجيا وتفسيريا.

وقد لا نبالغ، إذا ما قلنا بأن تبوأ حزب العدالة والتنمية لهذه المرتبة ، يدل على قبول فئة من  المواطنين عن هذا الحزب، وعن أدائه الحكومي، بل وأكثر من ذلك، فإن يؤشر في نظرنا على تبلور وعي مجتمعي يميل للجمع بين الديمقراطية والاسلام، او بين الحداثة والدين، وبين القيم الأخلاقية والعمل السياسي. وهذا ما يسمح بالحديث عن مرحلة ما بعد الاسلاموية (Post Islamization) في تجربة هذا الحزب.

ومن جهة أخرى، نلاحظ أنه  لأول مرة في تاريخ الاستحقاقات المغربية، تفزر عن مثل هذه النتائج، التي تبين أن هناك فرقا كبيرا بين أول حزب وثاني حزب ( في اعتقادي الشخصي الحزب الثاني بالمغرب، هو حزب الاستقلال وليس الأصالة والمعاصرة، لأن الكل يعلم أن حصول هذا الحزب على الرتبة الثانية، لم يكن بمجهوده الخاص، ولا يعبر عن إرادة حرة للناخبين، بل إن ذلك مرده للاحتضان السلطوي لهذا الحزب). وعليه فإننا نلحظ أن أحزاب ما سمي في لحظة من تاريخ المغرب بالكتلة لم تعد تستقطب إقبال الجماهير، فكون حزب الاستقلال ومعه حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية يرزون على ما مجموعه (78 صوت) فهذا يعني أننا أمام تحول كبير في دوافع المواطنين اتجاه الأحزاب الوطنية العريقة، والتي لم يعد لها من العراقة إلا ذكريات التاريخ. 

ومن جهة ثانية، تسمح هذه النتائج، بالذهاب بعيدا إلى أن أحزاب اليسار عموما لم يعد لها مكان في المشهد السياسي المغربي. فكون حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يحصل على أقل من أحزاب اليمين (أحزاب الإدارة كما كانت تسمى في السابق)، فهذا أكبر دليل على معاقبة هذا الحزب شعبيا من طرف الناخبين.

هذا على الرغم من تسجيل مفارقة كبيرة، وهو أن الحساسيات اليسارية والعلمانية بالمغرب، تنشط بشكل كبير في العديد من المجالات والمستويات العلمية والجامعية والاعلامية والجمعوية، لكن ذلك لم ينعكس ككتلة انتخابية مؤثرة في المشهد السياسي المغربي، وهو ما يجعنا نستنتج أننا أمام فراغ إيديولوجي وسياسي كبيرين، وينذران بتحولات عميقة في القوة التأثيرية لهذا التوجه في النقاش العام وفي القضايا التي تؤرق راهن ومستقبل البلد.

ثالثا: حصول حزب الأصالة والمعاصرة على المرتبة الثانية بـ102 مقعد، بما يعني ارتفاع عدد مقاعده بالنصف عن الاستحقاقات نونبر 2011، هذا يعني أن السلطة تريد أن تقوي هذا الحزب لخلق "توازن القوى" في المشهد السياسي، بينه وبين الحزب الأول والقوي (حزب العدالة والتنمية). وأكبر من ذلك، فإن ذلك يؤشر على وجود مخطط رهيب لكبح المسار الديمقراطي المغربي. لأنني على يقين أن هذا الحزب لا يعبر عن مشروع مجتمعي لكي يأخذ كل هذه المقاعد. وليس له خط إديولوجي واضح وعليه التفاف للمواطنين، يدافعون من خلاله عن برنامجهم وعن طموحاتهم وعن رؤيتهم التغييرية، اللهم التعبير عن السلطوية والتحكم.

كل ذلك يجعلنا نستخلص أن الدعم الذي حظي به هذا الحزب، لا يخدم سوى مصلحة المتحكمين في الموارد الأربعة التي يقع حولها الصراع (الثورة، السلطة، المعرفة والقيم). وأن وجوده دليل على أننا لا زلنا في مرحلة السلطوية، لكن بإخراج جديد، أو ما يمكن تسميته "بالنيو-سلطوية". حيث تعمل الدولة العميقة على خلق أحزاب أو حزب يقدم نفسه كوكيل على مصالح هذه الفئات، ويكرس الوضع الاستاتيكي (Statu quo).

ثالثا: النسق السياسي المغربي بين رهان الدمقرطة والسلطوية

لاشك أن نتائج هذه الاستحقاقات، قد شكلت صدمة لتيار التسلط بالمغرب، على اعتبار أنها جاءت بما لا تشتهيه رغبتهم في حصول حزب الجرار على المركز الأول، رغم كل الدعم (او بلغة أكثر تعبيرا ب Dopage) الذي تلقاه طيلة المرحلة الأخيرة. وثانيا هذه النتائج، عكست إرادة مجتمعية لصالح حزب العدالة والتنمية وإعطائه تفويضا لمواصلة الاصلاحات الديمقراطية، وبشكل خاص، شكلت هذه النتائج قدرة الشعب على الاختيار الحر، وعلى تجاوز منطق التحكم.

ولعلنا لا نبالغ  إذا ما اكدنا أن "المواطنين المسلحين بفن الحضور سوف يزعزعون الحكم التسلطي، وذلك لأن الدولة لا تحكم عادة وهي خارج المجتمع، إنها على العكس من ذلك تحكم عن طريق نسج منطق قوتها –عبر المعايير والقواعد والنظم- في نسيج المجتمع. والمحقق أن محتوى هذه المعايير والنظم ومنطق القوة يمكن أن يزعزع قدرة الدولة على الحكم  والتحكم" (آصف بيات، 2014).

ويبقى أهم معطى يمكن التوقف عنده، هو مدى تملك أحزاب اليسار للجرأة على التقييم الموضوعي لهذه النتائج، والخروج بخلاصات تكون في اتجاه التقاط الدلالات الكبرى، للعمل على تجميع كل الحساسيات –ليس للحصول على نتائج رقمية في الاستحقاقات المقبلة- وليكن بشكل خاص، على الدفع بعجلة الدمقرطة إلى متستواه الذي ننشدفي مغرب اليوم والغد، والقدرة على ضمان انخراط كل الحساسيات الفكرية والعلمية والجمعية والأكاديمية في صلب هذ التوجه. لأن كسب رهان الدمقرطة والوقوف في وجه التسلط والتحكم، يقتضي ذلك.

ويأتي تشديدنا على هذا المعطى- لاننا نعتقد أن هذا التيار يتوفر على رصيد تاريخي وإديولوجي بل وحتى مجتمعي كبير وبالتالي وجب أن لا يترك في الهامش وأن تتوارى خلف حركة التاريخ.

نشر
محتوى إعلاني