إسماعيل عزام يكتب: أنا مواطن حقير.. ابن المدرسة العمومية المغربية

نشر
6 دقائق قراءة
تقرير اسماعيل عزّام
Credit: FADEL SENNA/AFP/Getty Images

-- هذا المقال بقلم اسماعيل عزام، ولا يعبّر عن وجهة CNN بالعربية.

محتوى إعلاني

أنا مواطن حقير، ابن المدرسة العمومية المغربية.. لا أريدكم أن تجهزوا عليها أو تضعوا لأجل ولوجها رسومًا ما..

محتوى إعلاني

تلك المدرسة التي يُعاقب فيها التلاميذ بالضرب على الأصابع بخشب قاسِ.. أو يجدون أنفسهم ضحايا "فلقة" لأنهم لم يحفظوا درس كريم يأكل وأخته تساعد أمها في المطبخ.

تلك المدرسة التي كلّما بدأ المعلم في الشرح إلّا ويعلق في ذهنه صراخ صاحب الكراء ومتطلبات الأولاد وشكاوى الزوجة من شظف العيش.. يُعلّمنا الحساب ودماغه يعمل على حل معادلة توزيع أجره الشحيح على ما ينتظره من مصاريف.

تلك المدرسة التي عوض أن نتعلم فيها التربية الجنسية، وكيف أن لنا أعضاءً لم يحن بعد دورها التناسلي، نتلقى بين جدرانها أجوبة غامضة تزيد من نسجنا لأساطير الفحولة، لدرجة أن منا من يكذب ويصدق كذبه عندما يفاخر بأنه ضاجع فلانة، ثم يرفض الاعتراف، عندما يحاججه صديقه، بأنه هو الآخر أتى للعالم عن طريق هذه "المضاجعة".

تلك المدرسة التي كنا نتبوّل في ملابسنا بسبب قلة المراحيض أو عدم وجودها أصلا.. وفي أحسن الأحوال نبحث عن أقرب سور نتعلّم من خلاله أبجديات نثر قذارتنا في الفضاءات العمومية، ونحن من نتعلّم أن النظافة من الإيمان.

تلك المدرسة التي كنا نتدافع أمام مطعمها للحصول على رغيف خبز فيه القليل من سمك معلب والكثير من صغار الحشرات..  تلك المدرسة التي كان فيها الجوع يحتل أعماقنا بسبب بُعدها عن مساكننا، فلا نجد غير بائع "جولوبان" لسد القليل من رمقنا.

تلك المدرسة التي عوض أن نتعلم فيها قيم التسامح والتعايش، نتعلم فيها شتم أمهات بعضنا البعض، وتحقير بعضنا بسبب لونهم أو أسمائهم أو مهن آبائهم.. تلك المدرسة حيث يخطب علينا المُعلم حول أخلاق الإسلام، ولما نخرج من الفصل أول ما نفعله هو العراك وإدماء بعضنا بعضًا.

تلك المدرسة التي خرّجت لنا القليل من المتعلمين والكثير من الجاهلين، خرّجت لنا القليل من الصادقين والكثير من المنافقين، القليل من الناجحين والكثير ممّن لم يستطيعوا الفوز على الفشل المتربص بهم فعانقوه وارتبطوا به وأنتجوا لنا المزيد من الفاشلين. تلك المدرسة التي أخرجت لنا فئة تتظاهر من أجل تحسين العيش الكريم، وفئات تتظاهر لأجل فنان متهم بالاغتصاب أو لمناهضة "أخننة" المجتمع أو لشتم بان كي مون.

نعم.. ورغم كل هذا لا تجهزوا عليها.. لأنها وصلت إلى الحضيض بسببكم.

من شجع على بناء المدارس الخاصة؟ من أجبر موظفا حقيرًا في سلم متوسط على إدخال ابنه في مدرسة خاصة تمتص ما تبقّى من جيبه المثقوب؟ من جعله يقتنع أن معلمًا ما يتغيب في الفصل العمومي لأيام طوال ويضع لأجل ذلك شهادة طبية، هو نفسه من يُدرّس بكل قواه الجسدية والنفسية في الفصل الخصوصي؟ من حثّ على الطبقية في المجتمع فصار ابن الفقير في الفصل العام وابن متوسط الدخل في الفصل الخاص؟

من رمى الأساتذة في غياهب الجبال حتى يدرّسوا في حجرات عفنة متهدمة لا يجدون بدًا من النوم فيها ليلًا لغياب البديل؟ من يطالب أستاذًا بتدريس ستة مستويات في فصل واحد؟ من يطلب من أستاذ إنجاح تلاميذه بُغية رفع نسب النجاح حتى والأستاذ يعلم أنه يرتكب عبر هذا القرار مجزرة بحق أولئك الأطفال؟ من حوّل الموسم الدراسي إلى عطلة طويلة تتخللها أيام دراسة؟

من دفع التلاميذ إلى قطع الكيلومترات بحثا عن قسم يتكدسون فيه كحبات الذرة؟ من ضاعف من معاناة هؤلاء الأطفال عندما يقطعون طرقًا تأبى حتى البغال التنقل فيها؟ من يأبى رفع ميزانية بناء المدارس ويعوّضها برفع ميزانية التعويضات الخيالية لمسؤولين لا أحد يدري الوصفة التي يتبعونها لاغتيال ضمائرهم؟

نعم تسببتم، يا من دبرتم شأننا العام منذ عقود، في جعل مدارسنا مدعاة لسخرية التقارير الدولية، وقبل ذلك سُخريتكم أنتم عندما أرسلتم أبناءكم إلى المدارس الراقية والبعثات الأجنبية حتى يتعلموا بأحدث الوسائل وتركتم لأبناء الشعب الطباشير والسبورات السوداء الجوفاء يصرفون فيها فعل "manger".

اليوم، أنتم لستم فقط مطالبين بالتراجع عن أي مشروع يخص إلغاء مجانية التعليم العمومي، بل أكثر من ذلك، أنتم مطالبون بتحفيز الأسر على تدريس أبنائها.. بمساعدة الأسر الفقيرة على توفير كل ما تحتاجه لتعليم أبنائها بالطريقة نفسها التي تدرّسون بها أبناءكم. أنتم مطالبون بمزيد من توسيع ميزانية التعليم، بمزيد من تشييد المدارس خاصة في القرى، بمزيد من توظيف الأساتذة بعقود دائمة تحفظ لهم كرامتهم،  بمزيد من تشديد المراقبة على كل من يخون أمانة تعليم أطفالنا، بمزيد من تنقيح مقرراتنا وتطويرها حتى تبني جيلا أفضل منا.. حتى تُعدّ مغاربة أفضل منا.. حتى يجد أبناؤنا في هذه المدارس كل شيء حُرمنا منه.

أنا مواطن حقير، ابن المدرسة العمومية المغربية.. ولا أريدكم أن تجهزوا عليها أو تضعوا لأجل ولوجها رسومًا ما.

نشر
محتوى إعلاني