شمس الدين النقاز يكتب: تونس للبيع في "مزاد صندوق النقد الدولي" بسبب حكومة يوسف الشاهد
هذا المقال بقلم شمس الدين النقاز، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
يبدو أن الأمور في تونس تتجه نحو الأسوأ، فالأزمات الخانقة التي تمرّ بها البلاد لا يظهر لنا في الأفق القريب أو المتوسط أن الحكومة الحالية قادرة على إيجاد الحلول الناجعة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لا سيّما وأن التحالف السياسي الهش المبني على المحاصصات الحزبية أصبح مهدّدا أكثر من أي وقت كان.
تونس تلك الدولة الصغيرة التي صنعت التاريخ ذات شتاء 2011، بإسقاطها لنظام دكتاتوري حكم البلاد بالحديد والنار، أصبحت اليوم محطّ رحال من هب ودب من الجشعين والمافيوزيين، على غرار صندوق النقد الدولي الذي عرف بتعميق جراح كل دولة رضخت لسياساته المالية التي يدّعي أنها إصلاحية.
صندوق النقد الدولي الذي جمّد القسط الثاني من قرضه لتونس، اختار سياسة الابتزاز والضغط شأنه شأن كل المؤسسات المالية الدولية، حيث طالب الحكومة التونسية بتطبيق شروطه الإصلاحية بحذافيرها قبل صرف بضع مئات الملايين من الدولارات، لن تساهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية بتاتا.
وزيرة المالية لمياء الزريبي، كانت قد صرّحت الأحد الماضي لوكالة رويترز، أن الصندوق أجل صرف الشريحة الثانية المقررة في ديسمبر الماضي والبالغة قيمتها 350 مليون دولار، بسبب تباطؤ الإصلاحات الاقتصادية التي تعهدت بها الحكومة التونسية خصوصا في الأجور والوظائف العامة والقطاع البنكي.
الوزيرة التونسية أكدت أنه من المتوقع أن يقوم وفد من صندوق النقد بزيارة لتونس بنهاية مارس / آذار الجاري لمناقشة الشريحة الثالثة وسير الإصلاحات، لكنها شددت على أن زيارة الوفد وصرف 350 مليون دولار أيضا يتوقفان على إحراز تقدم ملموس في برنامج الإصلاحات، مشيرة إلى أن لدى الحكومة خططا واضحة لإطلاق حزمة جديدة من الإصلاحات في القطاع العام.
من المفارقة أن الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد ويدندن حولها المسؤولون التونسيون، ليست أكثر من نهب وإفساد وتشجيع على الرأسمالية في البلاد ودعم رجال الأعمال والقطاع الخاص على حساب القطاع العام، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى احتقان اجتماعي وغلاء فاحش لن تسلم منه كل القطاعات وخاصة الطبقات المتوسطة والفقيرة.
خبراء اقتصاديون تونسيون وأجانب، كانوا قد حذروا في وقت سابق من خطورة ما تقوم به الحكومة التونسية المبنية على تحالفات حزبية هشة، برضوخها لإملاءات صندوق النقد، ولعلّ القرار الوزاري الأخير بإقالة وزير الوظيفة العمومية والحوكمة عبيد البريكي المحسوب على الاتحاد التونسي للشغل وتعويضه برجل الأعمال خليل الغرياني المنتمي إلى اتحاد الصناعة والتجارة "منظمة الأعراف"، دليل على سعي حكومي لخصخصة البلاد وإعلان الحرب على الوظيفة العمومية.
إقالة البريكي التي فجّرت جدلا واسعا في البلاد بسبب ما اعتبره اتحاد الشغل مسّا منه وتجاوزا لمخرجات وثيقة قرطاج التي كان أحد الموقّعين عليها، كادت أن تكون القطرة التي أفاضت كأس الهدنة الاجتماعية، إلا أن تدخّل رئاسة الجمهورية في اللحظات الأخيرة وتقديم وعود لم يتم الكشف عنها للبريكي والمنظمة الشغيلة، حال دون فرط العقد.
المتأمّل في قرار التحوير الوزاري الذي أمر به رئيس الحكومة يوسف الشاهد، لا يمكنه فهم أسباب اختيار رجل أعمال ينتمي إلى منظمة "البورجوازيين" مكان ممثّل عن اتحاد عمّالي يُعتبر من أشد المدافعين عن طبقة "العمال والكادحين"، لكن المفتّش عن بصمات صندوق النقد الدولي سيعرف الإجابة حتما.
تونس مقبلة على تغييرات جوهرية، والضغوط الدولية عليها وصلت إلى حد غير مسبوق، ففرنسا وألمانيا من جهتهما يضغطان على الشاهد لأجل تنفيذ املاءاتهم، والولايات المتحدة الأمريكية تخشى هي الأخرى من عودة الفوضى إلى البلاد نتيجة سوء الأوضاع المعيشية والاقتصادية، إضافة إلى تردّي الأوضاع في الجارة ليبيا، وضبابية المستقبل السياسي في الجزائر.
التحالف الهش بين مختلف الأطراف السياسية في تونس، أصبح يمثّل عبئا على البلاد، فلا هذا يحكم ولا الآخر مستعدّ للحكم وحده، كما أن العجز الحكومي عن تنفيذ إصلاحات عاجلة لفائدة الطبقة الوسطى والفقيرة، ساهم في تردّي الأوضاع واتجاهها نحو الأسوأ، حتى أن تقارير إعلامية حذّرت التونسيين من أن بلادهم تتجّه نحو النموذج اليوناني.
تونس العاجزة اليوم عن توفير أبسط مقومات العيش الكريم لشعبها من دون اللجوء إلى الاقتراض والتداين، تنزف، وقد ساهم الجميع بلا استثناء في تعميق جراحها، فكل الحكومات المتعاقبة غلّبت مصلحتها الحزبية والشخصية على المصلحة العامة، فكانت التعيينات بالولاءات حتى أن كبار الفاسدين والمفسدين قد أبرموا الصفقات مع أحزاب بعينها لأجل عدم ملاحقتهم وتتبعهم قضائيا، ما ساهم في عودة رموز النظام البائد إلى تصدّر المشهد العام في البلاد.
الثورة المضادة نجحت اليوم في تحقيق بعض أهدافها في تونس، فرموزها يسيطرون على عدد من وسائل الإعلام التي يمررون عن طريقها رسائلهم ويستضيفون من خلالها رجالهم الأوفياء، كما أن العلاقات المشبوهة التي تجمع مسؤولين نافذين داخل الدولة برجال أعمال فاسدين، أكدت للمتابعين أن لا نيّة حقيقية للحكومة الحالية مثلها مثل سابقاتها في محاربة الفساد رغم مصادقة البرلمان مؤخرا على قانون يحمي المبلّغين عنه.
وزير الوظيفة العمومية المقال عبيد البريكي، خرج بتصريحات صادمة صباح الجمعة، كشف فيها عن فساد كبير ينخر البلاد، وسط صمت حكومي يكاد أن يكون تواطئا مع الفاسدين النافذين، فلا السلطات كانت قادرة على محاسبة المهرّبين، ولا رئيس الحكومة أنجز وعده بتتبّع الهاربين من سداد مئات المليارات من الديون المتخلّدة بذمّتهم لفائدة الدولة.
الحكومة الحالية المبنيّة أساسا على الولاءات، عاجزة تماما عن إيجاد الحلول الناجعة لإخراج البلاد من مأزقها، وما مؤتمر الاستثمار الذي نظمته قبل أشهر، والذي كان فاشلا على أغلب الأصعدة، إلا دليل على فشل "التكنوقراط" والمتحزّبين المتنافرين والمتناحرين، في قيادة البلاد خلال مرحلة مفصلية من تاريخها المعاصر، وهو ما ساهم في رهنها لصندوق النقد الدولي بعد استنفاذ كل الحلول، حسب زعمها.
تداخل الصلاحيات ورغبة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي وحزبه في تنقيح الدستور وتغيير النظام من برلماني معدّل إلى رئاسي بهدف تحقيق مكاسب أكبر من مجرّد فرض إملاءاته على رئيس الحكومة يوسف الشاهد صهره غير المباشر، هي الأخرى لا تقلّ خطورة عن إملاءات صندوق النقد الدولي.
شاران بارو، الأمينة العامـة للاتحاد الدولي للنقابات، كانت قد حذّرت قبل أيام من أن صندوق النقد الدولي يدفع بتونس إلى حافة الهاوية وإلى كارثة اقتصادية وسياسية، مع آثار مدمرة على الاقتصاد والنظام الذي وصفته بالديمقراطي الفريد من نوعه تقريبا في المنطقة، كما شدّدت على أنّ هذه الإملاءات الأيديولوجية من الصندوق ستدفع بالآلاف إلى الفقر، وستتسبّب في انهيار التقدم الذي أحرزه التونسيون العازمون على مزيد تطويره، ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وعودة ظهور الأصولية من جديد وزيادة خطر الهجمات الإرهابية في كل من تونس والبلدان المجاورة.
سقوط تونس في مستنقع الفوضى داخل منطقة تشهد تقلّبات عديدة لن ينفع أحدا بدون استثناء، رغم ظنّ بعض الأحزاب المعارضة أن بمقدورها مسك زمام الأمور إذا ما فشل "التحالف-المصلحي" في تسيير شؤون البلاد، كما أن مواصلة غضّ الطرف من قبل الجهات المعنية عن ملف الفساد والمفسدين، والالتجاء إلى الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي، سيضاعف الاحتقان الاجتماعي، وقبل حصول ما لا يحمد عقباه، هذه صيحة نذير علّ المعنيين بالأمر يفقهونها جيّدا.