بشار جرار يكتب عن تحديي الإرهاب والهجرة وفاتورتي الدفاع والتنمية
هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
تأخذني رحلة عمل في محطتها الأولى شرقا من واشنطن عبر الأطلسي إلى باريس ومنها عبر المتوسط إلى الدار البيضاء في المغرب إلى موريتانيا جنوبا وبمحاذاة الأطلسي مرة أخرى إلى نواكشوط عاصمة البلاد السياسية، فنواذابو عاصمتها الاقتصادية قبل أن أقفل عائدا إلى بلادي الجديدة بعيدا عن وطني الأم في المشرق "العربي" الأردن، في ذاك التصور الشعري المبشّر يوما ما عبر الأغاني بوطن واحد "من المحيط إلى الخليج".
الساعة الآن – لا أعرف بالضبط، فالوقت عبر تلك الضفاف الأطلسية والمتوسطية ليس واحدا بالتأكيد، ولا أتحدث هنا عن فوارق تحدثها مواقع تلك المدن التي ذكرت من خط غرينيتش "البريطاني". ولكن لغايات الحبكة الخبرية والقصصية، دعونا نتفق على أنها من ساعات الصباح المبكر. ولإن اتفقنا على ذلك فلنقل أن "سعدا" ما، يعيش حياته اليومية على وقع أحداث لم يشارك في صنعها، فلا "ناقة له ولا جمل" في هزيمة الإنجليز الكروية أمام الكروات في مونديال موسكو، وقد نسي مشجعو الأندية العربية الذين أوسعوا إبل أنديتهم ضربا بعد كل صافرة نهاية، كل خبراتهم الرياضية التحليلية الرياضية ونهلوا من مخزونهم التاريخي الرافض لخرائط سايكس – بيكو مظهرين تشفيا عجيبا غريبا بهزيمة الإنجليز في الدور قبل النهائي متمنين النصر لشريك عدوهم السياسي في الدور النهائي! هكذا هي ازدواجية المعايير في عالم السياسة والرياضة الهجين! كما تبدو عبر منصات التواصل الاجتماعي التي لا تقيم وزنا لأقوى تأشيرات العالم "الشينغين"!
تقدمت عقارب الساعة لكن بسرعات متفاوتة بتغير التوقيت من واشنطن إلى باريس، فالزمان مع حركة دوران الأرض غير الزمان عكسها، فصوب الشرق ثمة تقدم "زمني" لا يحدث فيه الفارق سوى التقدم "المكاني" شرقا باتجاه روما، القسطنطينية – إسطنبول، القدس، مكة أو "طريق الحرير" كما تعيد رسم ملامحه الشراكة أو لعله التحالف الكويتي الصيني الذي أطل برأسه في توقيت حساس، ساعات معدودة قبل مواجهة الرئيس الأميركي دونالد جيه ترامب مع شركائه في حلف الناتو وتأكيده نفوذ صبر بلاده من "اتكالية" أطلسية غير عادلة على بلاده في تمويل فاتورة الدفاع.
بعيدا عن كواليس المحادثات الدفاعية والتنموية في بروكسيل والصين ومن قبلها سنغافورة في القمة الأولى بين ترامب ونظيره الكوري الشمالي، كانت مشادة بين مشروع مهاجر "شبه قانوني" من إحدى الدول العربية شمال إفريقيا إلى فرنسا حيث فقد أعصابه جراء ما تهيّأ له أنه محاباة من شركة طيران لصالح ركاب على حساب أسرته. لكنه -ووسط ذهولنا كعابري سبيل في المطار وبعيدا عن فلاشات المؤتمرات الصحافية- انفجر في وجه زوجته لتجرئها على محاولة تهدئة غضبه على موظفة حجز التذاكر. العجيب أن موظفي الحجز والتذاكر وعناصر الأمن لم يتدخلوا معتبرين الأمر شأنا داخليا "عائليا" لا علاقة له بشعارات حرية المرأة وكرامتها وتمكينها. تمنيت في تلك اللحظة وكثيرا ممن فهموا ما كان "يرطم" به من ألفاظ غير لائقة بحق شريكة حياته في مشروع الهجرة أن أخبره بأن قرار السماح له بالهجرة سيكون في يدها وحدها كمرجع حقيقي يظهر "أهليته" لعبور ضفاف المتوسط أو الأطلسي.
في ساعات الظهيرة طارت بنا الطائرة وفيما كانت الكرة الأرضية بعيدا عن تقليعات "شيوخ أظهرت الدراسات أن" كانت تواصل دورانها كسائر الكواكب حول شموس مجراتها. عبرنا بحمد الله المتوسط وانقلبت بنا أحوال كثيرة. الضيافة المغربية لها طعم آخر في كل شيء. طعام ولا أحلى وكرم ضيافة ولا أجمل. وكمشرقي غير ذي علم ببعض المصطلحات والتعابير المغاربية توقفت طويلا ونظرت مليا في لافتة كانت تشير إلى ما اتضح لاحقا أنه مسجد. اللافتة كانت تشير إلى "فضاء العبادة" تذكرت على الفور تعابير مرادفة في الثقافة الأميركية الحريصة على الوقوف مسافة واحدة أمام وجدان الفرد فيما يخص على نحو خاص إيمانه أو عدم إيمانه وبأي دين كان. اللافتة في الولايات المتحدة تشير إلى "مكان مخصص للعبادة" أو "خلوة للعبادة والتأمل". المعيار هنا أن دافع الضرائب في الدولة المدنية إن كتب عليه تمويل دار عبادة والأصل أن يكون الأمر تطوعيا، فإنه لا يجوز المحاباة لصالح أتباع دين بعينه ففي تلك الدول لا يوجد في الدساتير أي ربط بين الوطني والمدني والديني. الدولة المدنية حكما وبالضرورة دولة تفصل بين الدين والسياسة حفاظا على صلاح كل منهما.
تسارعت عقارب الساعة – حسب المعايير التي سبق ذكرها- وحلّ علينا المساء في نواكشوط ولم أر نياقا على الشاطئ كما تقول أصل التسمية لكني رأيتها على جنبات الطرقات وفي كثير من الأحياء. مرة أخرى تأخذك كضيف مشاعر الترحيب الموريتانية حيث قسوة ظروف الطبيعة والحياة لم تنل من عزيمة وطيب وكرم الموريتانيين على اختلاف أعراقهم ولغاتهم.
ورغم الفارق بين الشاي المغربي والأتاي الموريتاني إلا أن عشق هذين الشعبين الطيبين للسكر موحد عشق يؤرق أطباء الغدد الصماء والسكري. على وقع الكؤوس الصغيرة احتسيت مع مضيفي الأكارم الشاي تارة بسكر وتارة دونه لتذوق مرارة الشاي والأتاي الجميلة. تحدثنا في قضايا كثيرة أشارت صراحة إلى أن الديمقراطية الحقة هي "العصا السحرية" الكفيلة بحل مشكلتي الإرهاب والهجرة للشمال الغني والغرب الديمقراطي من جهة، وحل مشكلتي العنف والفقر والجهل من جهة أخرى لدى الشرق والجنوب. اتفقنا كثيرا واختلفنا أحيانا لكن يوما جديدا وضعنا وجها لوجه أمام إحدى بوابات التعامل مع هذه التحديات مجتمعة: إنها نواذيبو حيث تأمل موريتانيا وأصدقاؤها في العالم بأن يتعامل الجميع عبر ضفاف الأطلسي والمتوسط مع عوامل الطرد قبل الجذب.
يوما ما، نقل عن الزعيم المصري سعد زعلول قوله لزوجته صفية يائسا من إصلاح الحال: "ما فيش فايدة غطيني يا صفية". من يومها ونحن – في العالم العربي وليس في مصر وحدها - نلوم "الطليان" على أخطائنا بما فيها فوضى الطرق الرهيبة التي رأيتها في موريتانيا حيث القاتل الأول حوادث المرور دهسا أو تصادما. ومن الإنصاف القول إن لا الطليان ولا غيرهم مسؤولين عن الدماء التي تراق على الإسفلت في بلادنا.
لست أدرى ما الذي ذكرني بذلك المسافر المهاجر الغاضب، لعله قال الحق على "صفية"، لأنها سمحت لسعد بالنوم والاستسلام ليأسه من الإصلاح!