رأي.. بشار جرار يكتب لـCNN: التطبيع مع "الطبيعي المستجد" في عالم كورونا وما بعدها

نشر
5 دقائق قراءة
تقرير بشار جرار
نائب الرئيس التنفيذي لشركة LHC الطبية يتجنب مصافحة ترامب باليد في 13 مارس/ آذار Credit: GettyImages

هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأميركية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.

محتوى إعلاني

خرجت علينا خلية الأزمة الخاصة بمكافحة فيروس كورونا المستجد في البيت الأبيض بمصطلح "الطبيعي المستجد" (New Normal)! أكثر ما يستوجب إعادة النظر، مظاهر التواصل الاجتماعي التي تبدأ بالتماسّ الجسدي العابر، تعبيرا عن الاستحسان والمؤازرة، كالربت على الكتف أو المصافحة التقليدية باليدين وحتى العناق والقبل.

محتوى إعلاني

وللقبل هذه حكاية تقص علينا - منذ قرون وحتى مطلع العشرية الثانية من الألفية الثالثة - تباين العادات والتقاليد، وتفاوت الحميمية أيضا. مهبط تلك القبل يشمل الكف مثلا ظاهره أو باطنه ولذلك معنى خاص في المغرب. ويشمل أيضا الوجنتين مثنى وثلاثا، ولذلك معان يفهمها أبناء الأرز والزيتون. أما قبلات الجبين والأنف (الخشم) والكتف فتحفل أيضا بكثير من المعاني على امتداد بوادينا في شبه الجزيرة العربية، خاصة في الحجاز. 

إدراكا لهذا التنوع الثقافي تحار شعوب على ضفاف المتوسط والأطلسي مثلا في تباين عادات التحية والسلام وعقد الصفقات وإبرام الاتفاقات والمعاهدات بين الشعوب وجميعها يجمع على المصافحة اليدوية على أقل تقدير. لكن الجميع يدرك أن لكل خصوصيته الثقافية واجبة الاحترام فيما يخص الجوانب الأخرى من التواصل. 

أذكر على سبيل المثال، إحاطة الزائرين الجدد مسبقا بعادات وتقاليد الآخر تفاديا لوقوع أي سوء تفاهم أو موقف محرج. لكن "كوفيد 19" الآن لا يتحسس ولا يتحرج على الإطلاق من تنحية تلك الثقافات كلها جانبا تحت أولوية السلامة العامة. المسألة لم تعد حقا أو واجبا فرديا وإنما مسؤولية جماعية. 

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعرض لانتقادات لاذعة جراء مواصلته المصافحة في بدايات الأزمة رغم توصيات التباعد الاجتماعي، حتى اضطر إلى توضيح موقفه الكاره أصلا لعادة المصافحة، مصرحا بأنه ينوي الكف عنها وربما لسنوات، في ظل استيطان الانفلونزا وظهور الكثير من الأمراض الفيروسية المعدية والموسمية.

بطبيعة الحال كل جديد يواجه بالاستهجان والرفض أحيانا، حتى يصبح الجديد طبيعيا، لا بل ويتحول إلى حالة مجتمعية تتكرس أجيالا لتصبح ما نسميه عادات وتقاليد!

وإن كان من نعمة فيما نحن فيه من تأسيس واع لما هو مستجد اجتماعيا، فهو استناده إلى قيم علمية معيارية قابلة للقياس ومن قبل للتفسير وحشد التأييد الاجتماعي لها. عندما يكون الفيصل هو عدو غير مرئي يستهدفنا جميعا دون تمييز، فإن الكلمة الفصل هي لخبراء الصحة وليس للساسة ولا حتى قادة الرأي العام والمؤثرين. 

لن يعود مقبولا في عالم كورونا وما بعدها أن نعبر حسيا عن مشاعرنا أو نتواصل جسديا مع الناس والأشياء. على كل منا أن يحفظ مركزه والمسافة الآمنة بينه وبين الناس والأشياء. ولكم أن تتخيلوا يا أحبة الذين لا أعرف ولم أصافح أن تواصلنا هذا عبر هذه الكلمات قد يكون أقرب لنا من كثيرين من حولنا وعلى مسافة أمتار في بعض الأحيان. فالتباعد الاجتماعي لا يعني انقطاع التواصل الإنساني فرديا ومجتمعيا بل يعززه ويمده بأسباب المنعة. 

وكما فرض الواجب الإنساني على بناة المرافق والمنشآت توفير ما يحقق كرامة الإنسان من ذوي الاحتياجات الخاصة كالمسطحات المائلة إلى جانب الأدراج، فإن كل ما نحن في صدد بنائه لعالم ما بعد كورونا يتوجب الاستفادة من الدروس كافة بدءا بالتباعد الاجتماعي، مرورا بإعادة النظر بنظامينا الغذائي والصحي، وانتهاءا بأولويات الإنفاق على مستوى الفرد والحكومة والدولة. 

أعلم أن التطبيع من المصطلحات الحافلة بالجدل لاعتبارات كثيرة، لكن "كوفيد 19" وضعنا جميعا كبشر أمام حجمنا الحقيقي.. مجرد كائنات حية اجتماعية تنشد البقاء على قيد الحياة والعيش الصحي والآمن والرغيد إن استطعنا إلى ذلك سبيلا! 

نشر
محتوى إعلاني