رأي.. بشار جرار يكتب عن مآلات الأزمة الأوكرانية فيما يخص "النظام العالمي الجديد"
هذا المقال بقلم بشار جرار، متحدث ومدرب غير متفرغ مع برنامج الدبلوماسية العامة - الخارجية الأمريكية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
بعد انتظار دام 90 دقيقة، اكتفى الرئيس الأمريكي جو بايدن بكلمة لم تتجاوز الـ10 دقائق، الثلاثاء، للرد على خطاب نظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي تجاوز الساعة، يوم الاثنين، بخصوص الأزمة الروسية الأوكرانية كما يريد البعض أو يتمنى وصفها. لم يجب بايدن على أسئلة الصحفيين وأهمها: هل ما زال لقاء القمة قائما بين الرئيسين؟
على إيجاز كلمة بايدن، المكتوب "باين" من عنوانه. من الواضح أن لا أحدًا يريد لهذه الأزمة الوصول إلى ما يتسبب بقدح شرارة حرب عالمية ثالثة. ومن الأكثر وضوحًا، في كلمتي بوتين وبايدن، أن الأول ليس متهورًا والثاني ليس بالعاجز فمن خلف الرجلين ثمة دولة عميقة ومؤسسات قوية راسخة لا تهزها العقوبات ولا تغير قناعاتها الماكنة الإعلامية المصطفة عالميا على جانبي الموقف مما يجري في أوكرانيا، تماما كما كان الحال في ساحات مواجهة أخرى منها سوريا. إن اندلعت – لا قدر الله - حرب في أوكرانيا ستكون عشرية سوريا أشبه بنزهة. لهذا لم تفاجئ الرئاسة السورية أحدًا ببيانها الصادر بعيد خطاب بوتين بأنها "مستعدة إلى الاعتراف" وبناء علاقات مع منطقتي (دونيتسك ولوغانسك) شرقي أوكرانيا بعد إعلان بوتين الاعتراف بـ "استقلالهما".
دخول ما تصفها روسيا بقوات "حفظ السلام" بأمر رئاسي مدعوم بالدوما (البرلمان) الروسي إلى تلك الجمهوريتين ما زال في مرحلته الأولى، ومن هنا جاء رد الفعل الأمريكي تدريجيا متأرجحا، حتى استقر الحال بأن ما أقدم عليه بوتين هو بالفعل اجتياح وليس مجرد توغل. بدأت ردود الأفعال الأمريكية بمرسوم رئاسي وقّعه بايدن على عجل، الاثنين، بمنع الأمريكيين من إقامة أي نشاط تجاري أو استثماري في تلك الجمهوريتين ليتبعه الثلاثاء بحزمة أولى من العقوبات التي شملت أهدافا عسكرية مالية روسية وطالت الدين العام الروسي كله من قبل المؤسسات المصرفية الغربية جميعها بما فيها الأوروبية ناهيك عن تعليق المصادقة على خط السيل الشمالي الثاني (الغاز الروسي لألمانيا ودول أوروبية أخرى).
الإعلام الروسي وفي إطار حملته لتبرير ما قد يصبح غزوا لا تسلم منه حتى كييف، ذكّر بما قال إنها "سرقة" أوكرانيا للغاز الروسي! أوكرانيا التي وصفها بوتين بالكيان الصنيع منذ إبان الثورة البلشفية (لينين ومن ثم ستالين وخروتشوف) ذكّر أيضا بأن القضية وجودية فيما يخص بأمن روسيا واقتصادها الذي "اعتاد" العقوبات الامريكية والأوروبية بمبرر وبلا مبرر.
وجد كثيرون بتصرفات بوتين ما يعزز طموح "القيصر" الذي يستعيد أراضي روسيا وهيبة "الوطن الأم"، فيما رآه كثيرون أيضا "هتلر" في مسوغاته الأوروبية للتوسع، و"صدّام" في مسوغاته الاقتصادية للضم (اتهامه الرئيس العراقي الراحل الكويت بـ"سرقة" النفط العراقي عام 1990). فهل نحن أمام مواجهة شاملة اقتصادية قد تنزلق إلى العسكرية؟ هل يصحح بايدن خطأ سلفه الديمقراطي كلينتون فيدعم أوكرانيا نووية؟ أوكرانيا كانت تملك ثلث ترسانة الاتحاد السوفييتي وتم تفكيكها نظير ضمانة أمنها ودعم اقتصادها وقد أخفق الجميع – بما فيها "إدارات أوباما الثلاثة" - بالوفاء بهذين الوعدين.
البديل – وهو الأرجح، تكرار سيناريو أبخازيا وأوسيتيا (جورجيا) والقرم (أوكرانيا). يبدو أن بوتين قد كسب بالفعل جولة أخرى من المعركة على طريق ما قد يكون ولادة قيصرية لنظام عالمي جديد ينهي نحو ربع قرن من الأحادية القطبية ولا يعود أيضا لثنائية قطبية. العالم الآخذ بالتشكل الآن متعدد الأقطاب. هذه العقوبات حتى ولو اكتسبت مروحتها أقصى شدتها ستتآكل بالضرورة لتضارب المصالح والأولويات. تبقى الكلمة العليا للاقتصاد واليد العليا فيه للطاقة فهي الأكثر بطشا من القوة العسكرية مهما علت وتمددت. يعلم بوتين وبايدن أن العالم كله يترقب الخطوات التالية لهما. إيران والصين على وجه الخصوص قد ينزعان الأضواء عن كييف وموسكو إلى فيينا، ثمة أخبار "جيدة" ينتظرها بايدن لتعويض انسحاب كارثي من أفغانستان واجتياح كارثي لأوكرانيا.
الأولوية الداخلية لبايدن الآن الذي انتقد تلكؤه بفرض العقوبات "الرادعة" أقرب مقربيه في الحزب الديمقراطي عضو مجلس الشيوخ الأمريكي كريس كوونز (أحد مرشحي بايدن لحقيبة الخارجية) ليذكر زميله المخضرم من الحزب الجمهوري السيناتور ليندسي غراهام أن ما يجري هو حصاد سياسته الكارثية الخاصة بالطاقة، مشيرا إلى أن قطع الغاز الروسي يتم من خلال استبداله بالغاز الأمريكي وإعادة فتح أنبوب النفط الكندي للولايات المتحدة (كيستون) الذي أغلقه بايدن رضوخا لليساريين (حماة البيئة) في حزبه.
الحكاية ما زالت في بداياتها، وكما هيمن فيروس كورونا على عامين كاملين وأثر في انتخابات كثيرة في العالم، فإن أي تجاهل لأولوية الطاقة في عالم اليوم سيشكل ملامح الكونغرس في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر / تشرين الثاني المقبل وما بعدها بما في ذلك احتمال عودة ترامب إلى السلطة في 2024 وله مقاربة مختلفة تماما تنطلق من رؤيته لروسيا كمنافس وكشريك وفي أسوأ الأحوال خصم (adversary) وليس كعدو (enemy) وهنا تكمن المشكلة في العلاقة مع روسيا. هل تراها أمريكا وأوروبا عدوا أم لا؟ وإلا فلم الإصرار على توسع "الناتو" شرقا؟