تقرير: مصطفى العرب
يشكل الاقتصاد نقطة بارزة في لبنان
بيروت، لبنان(CNN) -- يحتل الاقتصاد المركز الثاني على قائمة الأولويات بالنسبة للناخب اللبناني، مباشرة بعد الهموم السياسية، التي لا يمكن أن ينازعها الصدارة شيء في بلد تعتبر السجالات فيه خبزاً يومياً.
ويشكل الاقتصاد بالفعل نقطة بارزة في لبنان، الذي يصنفه صندوق النقد ضمن الدول ذات الدخل المتوسط المرتفع، غير أنه يرزح تحت وطأة دين كبير يعادل 47 مليار دولار، (150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، إلى جانب تربعه في مرتبة متقدمة على صعيد قائمة ما يعرف بـ"الدول الفاشلة" في التقارير الدولية، بسبب هشاشة وضعه.
ويعتمد الاقتصاد اللبناني تاريخياً على السياحة والخدمات في ظل ندرة الموارد الطبيعية المتاحة، إلى جانب استقبال الفوائض المالية من الدول النفطية، والنشاطات المرتبطة بتجارة المرور (الترانزيت)، إلى جانب استخدام السعودية والعراق لسواحله من أجل تصدير النفط عبر أنابيب.
وقد أدَّت الحرب الأهليّة،(1975 - 1990) إلى تدمير البنية التحتية للاقتصاد اللّبناني ، وتراجع الناتج المحلي بأكثر من 45 في المائة، وفقدت البلاد موقعها التجاري والمصرفي في المنطقة.
وقد كان الملف الاقتصادي أحد أبرز النقاط التي أثارتها المعارضة في لبنان ضد الحكومة خلال الانتخابات الماضية والحالية على حد سواء، خاصة وأن رئيس الحكومة، فؤاد السنيورة، شغل لفترة طويلة منصب وزير المال في مجالس الوزراء التي كان يرأسها الراحل رفيق الحريري.
وتشير المعارضة إلى فساد في المؤسسات وهدر في الإنفاق العام، إلى جانب غياب الرؤية الاقتصادية العامة وترهل القطاع العام.
بالمقابل، تدافع قوى الغالبية الحالية عن نفسها بالتذكير بأن الاقتصاد في لبنان جزء لا يتجزأ من السياسة، حيث يتراجع الأداء مع التوترات التي تكاد لا تتوقف في هذا البلد.
كما تشدد على أن القوى، المصنفة حالياً ضمن إطار المعارضة، كانت جزءاً من التركيبة الحاكمة خلال فترة الوجود السوري في لبنان، وقد تولى قادتها مناصب وزارية وإدارية رفيعة في قطاعات شهدت أكبر مسارب الهدر، وخاصة الكهرباء، التي ما تزال غير متوفرة على مدار الساعة، رغم أنها استهلكت ثلث الدين العام.
تركة الحريري الاقتصادية
ورغم غيابه عن الساحة السياسية بعد اغتياله، ما يزال الحريري الحاضر الأكبر في ملف الاقتصاد اللبناني، إذ أنه واضع الخطوط العريضة للهيكل المالي في البلاد بعد الحرب، وصاحب مشاريع إعادة الإعمار، وتشكل تركته بالتالي الهدف الأبرز لانتقادات المعارضة.
ويمكن اختصار رؤية الحريري، الذي تسلم منصبه الحكومي بعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب الأهلية إثر تظاهرات معيشية نددت بارتفاع أسعار صرف الدولار، بنموذج وسط العاصمة اللبنانية، الذي كان يشكل منطقة تماس بين المتحاربين، ما عرضه لدمار واسع.
وقام الحريري، الذي كان يؤمن بدور خدمي وسياحي للبنان، بدعم تأسيس شركة عقارية أعادت بناء المنطقة على أسس حديثة، لتكون مركزاً مالياً ومصرفياً وسياحياً.
غير أن ذلك جرّ عليه الكثير من الهجمات من معارضي منهجه، الذين يعتبرون أنه كان يراهن على حلول السلام الذي لاحت تباشيره في مفاوضات مدريد آنذاك، فوضع أسساً اقتصادية اتضح لاحقاً صعوبة السير بها بسبب تكرر المواجهات العسكرية بين لبنان وإسرائيل من جهة، وابتعاد المستثمرين الدوليين عن المنطقة المضطربة من جهة أخرى، إلى جانب بروز أدوار مراكز اقتصادية أخرى بالشرق الأوسط، في مقدمتها إمارة دبي، في الإمارات العربية المتحدة.
وقد توجه الإنفاق الحكومي المدعوم من القروض بمعظمه نحو التعويضات وإعادة الإعمار ودفع رواتب الموظفين، إلى جانب خدمة الدين العام الذي كان ينهش الميزانية الرسمية بشكل متزايد كل عام.
وكانت وجهة نظر الحريري تشير إلى أن الدين غير مهم إذا تمكنت البلاد من زيادة حجمها الاقتصادي بما يسمح لها بتقزيم تأثيرات ديونها.
إلا أن الحريري كان على الدوام رمز الاستقرار الاقتصادي للبنان، وهو أمر يقر به الجميع، حيث أن وصوله إلى سدة رئاسة الوزراء كان يعني دائماً تحسناً في المؤشرات الاقتصادية، وقد أدى ذلك إلى نجاح لبنان في استبدال قروضه وإعادة جدولتها عدة مرات، رغم المآخذ الكثيرة على الوضع فيه.
ولعل الدليل الأبرز على قوة تأثير الحريري يظهر من خلال سلسلة "مؤتمرات باريس"، التي أقامتها الدول المانحة للبنان لإعادة جدولة ديونه، وتقديم مساعدات جديدة له مقابل تعزيز الإصلاحات فيه.
الظروف الاقتصادية الراهنة
مما لا شك فيه أن الأزمة المالية العالمية جاءت في وقت غير مناسب أبداً للبنان، الذي يعاني من أزمته الداخلية الخاصة.
ولحسن حظ هذا البلد فإن مصارفه نجت من تبعاتها بفعل السياسة المالية المحافظة للمصرف المركزي، والتي دفعت باتجاه تقليل التعرض للأصول المرتفعة المخاطر في الأسواق العالمية.
غير أن ارتدادات الأزمة بدت واضحة في قطاعات أخرى، وسط حديث عن تراجع الاستثمارات وتقلص التجارة وتحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، وخاصة في دول الخليج، والذين يرسلون أكثر من خمسة مليارات دولار إلى ذويهم سنوياً، بما يشكل ربع الدخل الوطني.
ويقول وزير المال اللبناني، محمد شطح، لـCNN إن توقعات النمو تراجعت لعام 2009 إلى ما بين ثلاثة و3.5 في المائة، وذلك بسبب الركود العالمي، واحتمال حصول تراجع في نمو المنطقة ككل، علماً أن نمو عام 2008 فاق ستة في المائة.
ولدى سؤاله عن حجم تأثير الأزمة العالمية على الاقتصاد اللبناني، قال شطح: "بالتأكيد سيكون هناك تأثير، لكن ليس بوسعنا تحديد نسبته الآن، وإن كنا نأمل بألا يكون كبيراً."
ولم ينف شطح ارتباط اقتصاد بلاده بالخليج، حيث قال إن حجم الاقتصاد الذي يديره لبنانيون في الخليج هو أكبر من الاقتصاد اللبناني المحلي نفسه، والذي يبلغ حجمه قرابة 30 مليار دولار، متوقعاً تأثّر الشركات العقارية اللبنانية العاملة في تلك المنطقة، بسبب التصحيحات بقطاع العقارات والإنشاءات.
وقد سبق أن قامت شركات كبرى في الخليج بصرف ما بين 15 إلى 20 في المائة من موظفيها، ويتوقع أن يكون بينهم الكثير من الوافدين من دول الشرق الأوسط، وبينها لبنان، الذي تعمل ثلث قوته العاملة في شركات خليجية.
أما محافظ البنك المركزي اللبناني، رياض سلامة، فقد ربط بين النمو الاقتصادي والوضع الإنتخابي، وقال في مقابلة مع صحيفة "وول ستريت" الأمريكية: "إذا انطبعت انتخابات 7 حزيران بالديمقراطية، فسيتخطى النمو هذا العام نسبة 4 في المائة، لا بل قد يتجاوز 6 في المائة.
ويرى سلامة، كما يرى عدد كبير من خبراء الاقتصاد، أن مشكلة لبنان ليست في حجم الدين العام، بل في عجز الميزانية السنوي، معتمداً بذلك على قدرة السوق على استيعاب الدين، خاصة وأن الميزانية المجمعة لدى المصارف اللبنانية مثلاً بلغت في مايو/أيار 2009 أكثر من 98 مليار دولار.
الاقتصاد في ميدان السياسة
وكانت المعارضة قد شنت مؤخراً حملة عنيفة على السنيورة بسبب الضرائب التي تفرضها حكومته على المحروقات، والدين العام، ما دفعه (السنيورة) إلى الرد بشكل عنيف، قال فيه إن مال الضرائب يذهب إلى خزينة الدولة، في حين أن "مال الخوات يذهب الى المليشيات."
وقال السنيورة، إن البرنامج الاستثماري الذي نفذه مع الحريري كلف حوالي 8 مليارات دولار لإعادة إعمار البلاد، وإقامة الطرق والمستشفيات والمدارس والاتصالات والخدمات الصحية للمواطنين الهاتفية والمطار والمرافئ، مشيراً أيضاً إلى تكاليف إعادة بناء الجيش.
ولفت السنيورة إلى تأثير المعارك التي خاضها حزب الله في لبنان على النمو، قائلاً إن مواجهات 2006 فوتت على لبنان نسبة نمو تعادل 15 إلى 18 في المائة على مدار عامين، ما يعادل ما بين 5 و6 مليارات دولار، "ضاعت على الاقتصاد اللبناني" على حد قوله.
ويبدو أن الخلاف حول المستقبل الاقتصادي للبنان لن يحل قبل حسم الخلاف حول هويته السياسية، وقبل أعوام طرح السياسي اللبناني وليد جنبلاط مسألة، تبدو حاضرة اليوم أكثر من أي وقت مضى، حيث طلب الاختيار بين نموذجي هونغ كونغ وهانوي، أي بين التركيز على النمو الاقتصادي أو الانصراف إلى الاستعداد العسكري، باعتبار أن جمع النموذجين مستحيل.