هناك اعتقاد واسع النطاق ضمن الأسواق المالية العالمية بأن إفلاس بنك ليمان براذرز في يوم 15 سبتمبر 2008، وهو رابع أكبر بنك في الولايات المتحدة الأمريكية، كان بمثابة الرصاصة التي جرت معها الأسواق العالمية إلى مستويات سحيقة وغير مسبوقة من الأزمات المالية.
وبالطبع فقد ظهرت عشرات المقالات الصحفية والمجلات البحثية لإعطاء مبررات شاملة عن الأسباب التي محت هذه الاستثمارات المصرفية عن الوجود. حيث تمثلت أسبابها بمنح القروض عالية المخاطر والرهون أو الضمانات العقارية التي أخذت على ذوي الدخل المتدني أو الدخل المحدود والفقراء, إضافةً إلى التمادي في كيانات الاستدانة المفرطة، والتركيز على دعم القطاعات المتقلبة مثل قطاع العقارات، وفوق كل ذلك الجشع، وسوء التخطيط طويل المدى للعواقب المالية مع انعدام النظرة الثاقبة نحو تبني مفهوم الاستدامة، إلى جانب العديد من الظواهر الحاسمة الأخرى، مثل تحجيم الالتزامات القانونية الإلزامية.
والآن وبعد ثلاث سنوات مرت على هذا الانهيار المالي الضخم أعتقد بأنه أصبح من المفيد جداً في هذا الوقت التفكير فيما لو كنا فعلاً قد استطعنا حصر ولمس القضايا والأسباب الرئيسة التي أدت إلى سقوط النظام المالي ليجثو على ركبتيه من شدة الضعف والوهن الذي أصابه، وذلك في محاولةٍ للحفاظ على محركات وديناميكيات النمو الاقتصادي الحالي.
جهود الإنقاذ
يمكن القول بأن إفلاس ليمان براذرز قد أشعل سلسلةً من الأحداث ذات التأثير السلبي المباشر على النظام المصرفي والمالي, وذلك على الصعيد العالمي. حيث بدأت علامات الضعف تظهر جليةً على العديد من أعمال الاستثمارات والعديد من المصارف التجارية أيضاً، والتي اتسمت بمظاهر الضعف والشقوق في استثماراتها، إضافةً إلى انخفاض أسواق البورصة العالمية إلى مستوياتٍ متدنية لم تشهدها في الماضي. مما شغل المستثمرين والأفراد والمصرفيين والحكومات في جميع أنحاء العالم بعلامات التوتر والقلق وذلك في الفترة التي جاءت بعد الانهيار مباشرةً.
أما الدور القيادي لتخطي آثار هذا القلق فقد لعبته الولايات المتحدة الأمريكية والتي لجأت إلى اتخاذ تدابير الإغاثة والإنقاذ في محاولةٍ منها لارجاع الاقتصاد العالمي إلى طريق النمو والتنمية. كما حاولت بعض المؤسسات المالية الأخرى أخذ بعض الأمور بعين الاعتبار في محاولةً لإنعاش الاقتصاد وإرجاعه إلى خط الحياة, فقامت بتعديل معاييرها وشروط معاملاتها المالية كما غيرت ظروف تعاملاتها جميعاً, إلى جانب تأميم وحوكمة بعض الكيانات المالية من قبل حكومتها الأم أو من خلال دمج أعمال المصارف الصغيرة معاً.
أما الحكومات في جميع أنحاء العالم فقد مارست ضغطها على مؤسساتها المالية العريقة والتي أنشات من فترة طويلة وحاولت إقناعها بالبقاء والثبات وعدم التأثر بانهيار واحدة من أعظم المؤسسات المالية في العالم، وذلك لأن أملها كبير في أن يرتد الاقتصاد العالمي إلى مساره الطبيعي قريباً مع انحسار هذه الأزمة المالية في أقرب فرصة.
ولكن هل أثمرت جميع هذه المحاولات؟ هل ساهمت في تحقيق النتائج المرجوة؟ هل أصبح الاستثمار أكثر أمناً؟ هل زادت عوائده؟ هل استطاع المستثمرون استعادة ثقتهم بالمؤسسات المالية التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية؟ وهل تعافى الاقتصاد العالمي وتمكن من إيجاد فرص عمل جديدة وزيادة معدل المنتجات الصناعية؟
جرس إنذار ليمان
مما لاشك فيه بأن إفلاس وانهيار بنك ليمان كان بمثابة علامة تنبيهية لاستيقاظ المؤسسات المالية الأخرى, ووكالات التصنيف الائتماني والمستثمرين. وبالأحرى فهو درس يجب أن نتذكره مدى الحياة. حيث يتوجب على المصرفيين أن يدركوا طبيعة مخاطر القروض المرتفعة, ومخاطر التركيز على القطاعات المتقلبة, والانتباه إلى الرهون العقارية ذات الجودة غير المضمونة، أو الإفراط في الاستدانة ومسائل التعدي على الميزانيات العمومية للمصارف. هذه العوامل جميعاً وغيرها قد تساهم بإشعال فتيل الأزمة الاقتصادية مرة أخرى.
أما الآن وأكثر من أي وقتٍ مضى فنحن بحاجة لاتباع القواعد والتشريعات المالية الصارمة والواضحة التي يحددها BASEL II والتي ستساعدنا على تجاوز أي نوعٍ من أنواع العصف المالي أو مايطلق عليها البجعات السوداء المحتملة وهي الأزمات ذات الاحتمالية المنخفضة في إمكانية حدوثها غير أنها تسبب كساداً كبيراً إن حدثت.
وبالتالي نستخلص بأن اتباع النظام المصرفي الواضح والصارم هو النظام الأكثر أماناً ومرونةً وهو النظام الذي نحتاجه أكثر من أي وقتٍ مضى، ومع ذلك فإن هذا النظام وبالرغم من جديته وأهميته إلا أن الانطباع عنه بأنه مايزال بأنه نظاماً محدودأً ولا يستستيغ العودة إلى نظام الإقراض خوفاً من تحسبه لخسارة الأموال بسبب حدوث الهزات الاقتصادية المحتملة.
الانتعاش العالمي! أسطورة أم واقع؟
من خلال النظرة التي ألقيناها على السيناريو الاقتصادي العالمي اليوم فقد رأينا بأن تكلفة الاقتراض تقارب الصفر في معظم الاقتصادات التي ضربتها الأزمة، والتي تهدف بطبيعة الحال إلى تشجيع الصناعات التحويلية وإيجاد فرص العمل التشغيلية، ورغم ذلك ولسوء الحظ فإن الطلب على الائتمان وعلى الأنشطة الصناعية التحويلية لم يرتفع بالوتيرة المطلوبة المرغوب بها على نطاقٍ واسع رغم أن هناك بعض التدابير الاستثنائية التي اتخذت بشأن الاقتصادات التي أثرت بها الأزمة الاقتصادية بشكل واضح، وذلك بهدف تحفيز الأنشطة الاقتصادية والأسواق المالية وتقليل التوتر وتمكين الشعور باليقين ومحاولة نشر الإحساس بالتفاؤل تجاه المخاطر.
إلا أن المخاوف ماتزال سائدة في كل مكان، ومن الأمثلة عليها أن معدل البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية لايزال ثابتاً عند مؤشر 9.1%، وبعبارةٍ أخرى فنحن نتحدث عن 14 مليون شخص يبحثون عن فرص عمل في أمريكا وحدها.
ومن هنا فقد جاء الرئيس أوباما بحزمة من المحاولات والاستراتيجيات بهدف إيجاد فرص عمل جديدة، غير أن جميعها لم تسفر عن أي تحسين في السيناريو الاقتصادي، رغم التسهيلات الكمية الكبيرة لكل من QE1 -QE2، إلا أنه لم تظهر هناك أي دلائل ملموسة في الانتعاش الاقتصادي في الأفق على الأقل في المستقبل القريب. بل على العكس من ذلك فقد ازدادت المخاوف ضمن الأوساط المالية الأمريكية من أن تغرق في " الركود المزدوج" والذي إن حصل وحدث فإنه ستصبح إمكانية جر الاقتصاد العالمي إلى مستويات سحيقة من الركود مرة أخرى كبيرة.
ورغم أن المشكلات الاقتصادية تشتد على الولايات المتحدة يوماً بعد يوم, إلا أن الوضع في أوروبا ليس بأفضل حالاً فجهود الإنقاذ المشتركة لمؤسسات كبرى، مثل البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي لم تؤد إلى تحقيق النتائج المرجوة الرامية إلى إصلاح الاقتصادات المثقلة بالديون مثل اليونان وإيرلاندا والبرتغال.
إنه من الواضح بأن ارتفاع معدلات الضرائب، وخفض معدلات الإنفاق، قد أدت إلى حدوث احتجاجات واسعة النطاق في عدة دول أوروبية مثل اليونان وإيطاليا. ورغم إعداد خطتي إنقاذ، إلا أن القلق والتوتر ما يزالان يهاجمان مضاجع القادة السياسيين في المنطقة.
ومن هنا فقد جاءت الدعوة الواسعة النطاق لإسقاط اليونان من الاتحاد الأوروبي، حتى يتم على الأقل إنقاذ الاقتصادات الأخرى وذلك بسبب توتر العملة، وحدة سعر الصرف إضافةً إلى حدوث المحن المالية المتتالية الأخيرة التي أدت إلى تفاقم مشكلات النظام المالي الهش.
أمام طريق شائك!
إلى حدٍ كبير، فقد تمكنت الاقتصادات النامية من تخطي الأزمة بشكلٍ جيد، إلا أن الاقتصادات المتقدمة قد تعثرت في الظلام الاقتصادي مع عدم قدرتها على إيجاد أدلة وحلول ملموسة لحل القضايا والمشكلات الاقتصادية الشائكة الوشكية، بينما خطر حدوث " الركود المزدوج" يلوح في الأفق، مع التهديد بارتفاع معدلات البطالة، والنمو الاقتصادي البطيء، وازدياد الديون الوطنية على كاهل الدول، وإمكانية تقصير الحكومة في إيجاد حلول لجميع هذه المشكلات، مع انخفاض معدل الإنفاق الإستهلاكي، وارتفاع معدل الضرائب.
حقيقةً بأن جميع هذه الأسباب ستجعلنا نقف مع أنفسنا ونعترف بأننا قد نفشل في معالجة الأسباب الجذرية التي ألحقت ضربةً عميقةً بالاقتصاد العالمي وأرجعتنا بالذاكرة إلى ثلاث سنواتٍ مضت.
هذا وقد واجهت الاقتصادات العالمية التي ضربتها الأزمة الاقتصادية عدد من التحديات الجادة والتي تضمنت أهمية إيجاد حلول للمخاطر الاقتصادية، والعمل على الحد من العجز في الميزانية إلى المستويات المعقولة، ومحاولة الحد من مستويات الديون العامة وصولاً إلى نسبٍ معقولة من التوازن الاقتصادي، مع إيجاد فرص عمل مستدامة للعامة من الناس.
ومن هنا فإننا نستطيع القول بإننا قد نستعيد الثقة بالنظام الاقتصادي عندما نجد حلولاً وافية لهذه المشكلات المطروحة جميعاً، ولكن ومع تدهور الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروربا فقد أصبحت مخاوف القلق والتوتر وعدم اليقين بالأسواق المالية العالمية هي الصفات السائدة للاقتصاد العالمي في يومنا هذا. والحل يكون بمحاولة تخطي جميع هذه المخاوف المقلقلة، ومحاولة العودة إلى ازدهار النمو الاقتصادي العالمي، حيث ينبغي للعالم ألا يسمح بحدوث أزمة اقتصادية قاضية أخرى لأن النظام المالي منهك أصلاً ولن يتحمل أي ضربات قاضية أخرى.
يقول هلمات شكسبير: 1602" عندما تأتي الأحزان فإنها لاتأتي فرادى بل تأتي في كتائب."
*د. إيلانجو رينجاسامي : أستاذ العلوم المالية والمصرفية في الجامعة البريطانية في دبي. للتواصل :elango.rengasamy@buid.ac.ae
* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي موقع CNN بالعربية