يتعلق الأمر بفيلم وثائقي يقع في فصول تواكب السيرة الذاتية للمخرج داخل وسطه العائلي، من خلال تجربة سينمائية فريدة وجريئة، تمثلت في تسليط الكاميرا عبر سنوات طويلة على مسارات المخرج وعلاقاته الأسرية، مع والديه ثم مع أبنائه، وبعض الشخصيات الهامشية في مسقط رأسه.
وحقق الفيلم إجماعا نادرا بين الجمهور والنقاد وأعضاء لجنة التحكيم، خوله حصد الجائزة الكبرى للمهرجان وجائزة نقاد السينما بالمغرب، مما يعد تراكما نوعيا في مسار سينما مغربية تبحث عن هويتها في غمار تجريب أجناس فيلمية متنوعة.
وسواء من خلال مشاهد حوارات عادية داخل الأسرة المتوسطة الحال، أو التسلل الى حميمية مكشوفة على البؤس والعوز داخل بيوت السكن العشوائي في هامش المدينة، أو تسليط الكاميرا على وضع رجل يحتضر على فراشه، استسلم للموت الوشيك لكنه يخشى أن يباغته وحيدا، بدا فيلم "أشلاء" وفيا لعنوانه، مورثا مشاعر ممزقة بالألم الذي يجاور أحيانا سوداوية قاهرة أمام عبئ الانكسارات وقساوة الشروط الحياتية.
لا يستثمر المخرج الكثير من الجهد في فنيات مقاربة الوقائع الموثقة، بل يراهن على جمود الكاميرا وحيادها البارد الذي يفسح المجال مطولا أمام تلقائية التعبير عن صنوف مختلفة من الانفعالات تشكل بانوراما من الرؤى ووجهات النظر تجاه الحياة والموت والزمن والعلاقة مع المكان وعلاقة الذات بغيرها.
ومن تفوق المخرج في الحفاظ على طراوة التعبير لدى مختلف الشخوص المتورطة في القصة، التي هي مجموع قصص من مسار الذات والآخرين، فإن المشاهد يغدو متقمصا لأوضاع الحالات الانسانية الحية، مستعيرا نبض القلوب المهزوزة بعواصف الحياة ومطباتها وآلامها.
فالفيلم تتابع شهادات وحوارات حقيقية من يوميات أسرة ومجتمع مغربيين، لم تشوش الكاميرا على تلقائيتها، بل على العكس، استفزت أعماق شهودها واعتصرت أفئدة تحدثت بلسان تجارب وجدها الجمهور مرآة لذواته وصورة لمعيش الأسرة المغربية وشرائح اجتماعية واسعة.
دون مساحيق، يفضح حكيم بلعباس أغوار الذات وضعفها، وهو يرتمي باكيا في حضن أبيه عشية الرحيل الى الولايات المتحدة لدراسة الفن السينمائي، يوثق جبروت الزمن وهو يواكب تقدم الوالد في السن، ها هو يفقد بعضا من شعر رأسه، يدب الوهن في جسمه، الى أن يسلم الروح على فراشه فيشيعه أبناؤه الى المقبرة، يرصد اللامتوقع في حياة الفرد وهو يرفض فكرة الزواج أمام والدته الملحة، لتسجل عليه الكاميرا-الراوي لاحقا حنثه بعهد العزوبية.
ولا يغفل المخرج في توثيقه لسيرته الذاتية عن مساءلة جدوى اختياره المهني حين عانق السينما كأفق ومهنة. بمسحة كوميدية، يوصيه والده، قبل موته، بأن يبحث عن مهنة تضمن له وضعا معيشيا أفضل، وسنوات بعد ذلك، حين يسأل طفلته الصغيرة عن رأيها في ما يقدمه من أفلام، ترد عليه بعفوية محببة انفجر الجمهور ضاحكا لها "لا أحب أفلامك".