محمد عيسى يكتب.. "مصر وتجمع "البريكس": هل من منفذ للخروج؟"
هذا المقال بقلم محمد عبد الشفيع عيسى،أستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية يمعهد التخطيط القومي ، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN .
انعقد فى الفترة الأخيرة اجتماع دولي مهم على مستوى القمة، هو الاجتماع السنوي السادس من هذا النوع، بمدينة (فورتاليزا) بالبرازيل، لمجموعة دولية تسمى (بريكس) BRICS خلال الفترة ما بين 14 و17 يوليو/تموز من العام الحالي، وتضم المجموعة كلا من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا.
وبهذه المناسبة، يثور التساؤل عن إمكانية التوجه المصري ناحية فتح آفاق جديدة للعمل الدولي والإقليمي خلال المرحلة القادمة، ومن بينها أفق "البريكس".
وتختلف النظرة إلى "البريكس" ما بين التقييم المفرط إيجاباً، والمفرط سلباً. حيث يذهب البعض في تفاؤله إلى اعتبار تجمع البريكس قوة دولية كبرى، ولو فى طور التشكل، كما أن هذه الدول – وخاصة الصين – تستحوذ على قسط هام من تدفقات التجارة والاستثمار واحتياطيات النقد الأجنبي وانتقالات التكنولوجيا على الصعيد العالمي، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي المقارنة للدول الأعضاء، واتساع الأسواق المحلية.
ومقابل هذه "النظرة التفاؤلية"، توجد نظرة تشاؤمية ترى في "البريكس" جمعاً للأضداد المتنافرة من الزاوية التاريخية -الحضارية والجيوبوليتيكية، وخاصة على محور الثنائي الدارج لكل من (الهند-الصين) و (روسيا-الصين)، بما لا يسمح بتكوين "كتلة تاريخية حرجة" قادرة على إحداث تغيير جذري في هيكل النظام العالمي.
وفي نقطة التوسط بين التفاؤل والتشاؤم، يقدم بعض آخر موقفاً "متحفظاً"، إلى حد ما، تجاه مسيرة البريكس، ولعلنا نميل إلى ذلك، حيث تمثل البريكس، حتى الآن على الأقل، قوة رمزية أكثر منها فعلية، باعتبار أن مصادر القوة الفعلية الراهنة للبريكس تكمن فى قدرات الدول الأعضاء فرادى في المقام الأول، دون أن ترقى إلى بناء قوة جماعية تعكس اتحاد القدرات الفردية في منطقة ذات طابع اندماجي أو تكاملي حقيقي. بل ومن الملاحظ أن البريكس تفتقد إلى خاصية التوازن العضوي على صعيد الحركة، نظراً لأن الاقتصاد الصيني، والاقتصاد الصيني وحده تقريبا، يمثل المحرك الحقيقي لشبكة التعاون الاقتصادي بين أعضاء التجمع وبعضهم البعض، وفيما بينهم والعالم الخارجي، خاصة في الغرب.
وبغض النظر عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، وعن التوسط بين الطرفين، فإن تجمع البريكس يبقى قوة دولية كبيرة محتملة، على طريق التكوين، وأنه يحمل إمكانات التطور نحو صيغة جدّ فعالة فى مجالىْ التعاون الاقتصادى البينى المتبادل، والعلاقات الاقتصادية الدولية.
ومما يؤكد وجهة النظر هذه، أن البريكس قد وضع نصب عينيه خلال الأعوام الخمسة المنصرمة، محاولة التأثير فى بنية النظام النقدي والمالي الدولي، كأولوية أولى بين أعماله وأنشطته المختلفة، من أجل التقليل من هيمنة المؤسسات المنبثقة عن اتفاقات بريتون وودز لسنة 1944 (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي).
وقد حقق البريكس نجاحاً نسبياً ملحوظاً في مواجهة الهيمنة المذكورة، عن طريق الالتفاف من حول البنية التقليدية للنظام المالي العالمي، بالعمل على تأسيس "كيانات موازية" أكثر قرباً من احتياجات العالم النامي، بالإضافة إلى السعي نحو تحقيق اختراقات أخرى في مضمار "الاقتصاد الحقيقي". ويتضح ذلك من محصلة أعمال القمة الأخيرة للبريكس في البرازيل، والتي تتركز في مجالين:
أولاً : المجال المالي والنقدي، حيث تم التوقيع على الوثيقة المنشئة لبنك التنمية لمجموعة البريكس يوم 15 يوليو/حزيران 2014 برأسمال إجمالي مقداره 100 مليار دولار، بادئاً برأسمال أوّلي يقدر بخمسين مليار دولار ( 10 مليار دولار من كل دولة عضو) على أن يزاد بمقدار خمسين ملياراً أخرى خلال السنوات الخمسة القادمة. كما اتفق على أن يبدأ "بنك التنمية" نشاطه الإقراضي في عام 2016 بغرض إنشاء المشروعات ذات الأولوية في قطاعات تنموية مختارة، وسوف يكون مقر البنك في مدينة (شنغهاي) الصينية، وسيكون أول رئيس له من الهند. أما مجمع الاحتياط النقدي فيتكون من رصيد بقيمة 100 مليار دولار، تقدم الصين 41 مليارا منها، بينما تقدم كل من روسيا والبرازيل والهند 18 مليارا، وتقدم جنوب إفريقيا خمسة مليارات، بغرض استقرار قيم العملات للدول الأعضاء والمساعدة في معالجة العجز في موازين المدفوعات.
ومن الجدير بالإشارة والاعتبار فقرة مهمة وردت بهذا الصدد في البيان الصحفي الصادر عن اجتماع القمة، ويجىء نصّها كالتالي:
(عبرت المجموعة عن خيبة أملها وقلقها العميق، نظراً لعدم تطبيق حزمة الإصلاحات المقدمة في عام 2010 لصندوق النقد الدولي، بما يؤثر سلباً على مشروعية ومصداقية وفاعلية الصندوق).
وصحيح أنه من غير المتوقع أن يمثل (بنك التنمية) و (صندوق الاحتياطي) بديلين لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في الأفق المنظور، ولكنها خطوة على طريق طويل من أجل إعادة هيكلة النظام المالي والنقدي الدولي، وعلى طريق أكثر طولاً وأشد تعقيداً لإعادة هيكلة النظام العالمي ككل، بما يمكن أن تتضمنه من تغيرات زلزالية كبرى في العلاقات الدولية و"إعادة تموضع" للقوى الدولية ذات الصلة.
ثانياً: اتفاق التعاون حول الابتكار: يمثل هذا الاتفاق، من وجهة نظرنا، نقطة فارقة أساسية في مسيرة البريكس. فلقد اعتبر فريق كبير من المحللين بأن البريكس ذو " توجه مالي ونقدي" في المحل الأول، وكنا أقرب إلى وجهة النظر هذه. فإذا باجتماع القمة الأخير يقدم مقاربة مختلفة تحملنا على إعادة النظر في تقييم مسيرة البريكس وتوقع خطواته المستقبلية. ومن هنا، يأتي التفات قادة البريكس إلى أهمية الابتكار بكونه مصدراً للنمو الاقتصادي، ليمثل علامة على التغير في المنظور الحاكم للتعاون الاقتصادي المتبادل.
وقد انتهجت قمة البريكس طريقاً متدرجاً للتعاون في الابتكار، فقد أوْكلت مهمة تحقيق الانطلاقة الأولى في هذا المجال إلى مؤسسات التمويل، القادرة بطبيعتها على تحمل المخاطرة وابتعاث المبادرات. ومن هنا فقد تم توقيع الاتفاق بتاريخ 16 يوليو/حزيران 2014، بين مجموعة بنوك رئيسية مملوكة للدولة في الأعضاء الخمسة، مكونا من مقدمة وثلاثة مواد. تنص المقدمة على ضرورة تقوية مبادرات الابتكار، وتسهيل تبادل المعلومات حول برامج الابتكار التكنولوجى وتقديم التمويل والاستثمار اللازم في هذه البرامج، من خلال الدعوة إلى الدخول في اتفاقات ثنائية ومتعددة الأطراف، هادفة الى " نقل المهارات" و" تشاطر المعرفة".
وتنصرف المادة الأولى إلى " أهداف اتفاق التعاون"، بينما تتوجه المادة الثانية إلى تنظيم (الاتفاقات الثنائية ومتعددة الأطراف) وتشتمل المادة الثالثة على أحكام متفرقة في الموضوعات المختلفة ذات الصلة.
وتلك نظرة خاطفة على مسيرة "البريكس"، فهل يمكن أن يشكل هذا التجمع، بالنسبة إلى مصر والاقتصاد المصري، منفذا للخروج من النفق الذي جرى إحكام إغلاقه على مدى أربعين عاماً سابقة على ثورة يناير؟
نعم، بشرط أن يكون أحد المنافذ، على المستوى الدولي، تكمله منافذ أخرى عالميا وإقليميا، في ضوء استراتيجية متكاملة حاكمة للسياسة العربية والخارجية، وللتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في مصرنا الجديدة، على وجه الإجمال.