هل ينجح السيسي في إعادة هيكلة دعم الغذاء في مصر؟

نشر
10 دقائق قراءة
تقرير عاصم أبو حطب
مصري يحمل على رأسه وجبات للإفطار خلال شهر رمضان في القاهرةCredit: KHALED DESOUKI/AFP/Getty Images

هذا المقال بقلم عاصم أبو حطب، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN.

محتوى إعلاني

انتهى العام الأول للسيسي وحكومته ممهداً الطريق لسلسة من تحليلات تقييم أداء النظام وإنجازاته على مستوى القطاعات المختلفة. واتسمت هذه التحليلات بسمتين أساسيتين أولهما القطبية الشديدة فإما تجدها مسرفةً في الثناء والإشادة أو تلقاها ممعنةً في النقد غير الموضوعي. أما السمة الثانية فهي تركز هذه التحليلات على الملف السياسي محلياً وإقليمياً وعلاقات النظام مع دول الجوار، والملف الأمني وتحديداً جهود مواجهة الإرهاب ومحاولات استعادة الاستقرار. وأمام هذا وذاك، غابت قضايا اجتماعية واقتصادية أخرى عن بؤرة التقويم، رغم ما شهده هذا العام من سياسات وقوانين جديدة قد تؤدي إلى تغييرات طويلة الأثر في واقعنا الاقتصادي والاجتماعي.

محتوى إعلاني

ومن واقع اختصاصي في مجال سياسات الزراعة والغذاء، فإنني أستطيع أن أزعم بأن أهم إنجاز حققه النظام السياسي خلال عامه الأول هو "فتح" ملف الدعم وتبني سلسلة من السياسات لإعادة هيكلة منظومة دعم الغذاء في مصر -- عاصم أبو حطب. ومن باب التدقيق، فإنني استخدمت كلمة "إنجاز" لوصف عملية "الفتح" ذاتها وليس لوصف نتائج تطبيق هذه السياسات لأنها -كما سيأتي لاحقاً- مازالت في أطوارها الأولى ويلزمها الكثير من الوقت والجهد حتى ترتقي لمستوى الإنجاز. نعم، إن نجاح الحكومة في تقليص دعم الغذاء في الموازنة العامة للدولة وفي ذات الوقت تجنب حدوث اضطرابات اجتماعية وأحداث عنف هو في ذاته حدث مهم يستحق أن نقف عنده. ودعوني أعود بكم للوراء لأبين أسانيد هذا الزعم ولماذا أراه بمثابة تغيير جوهري في السياسة الإقتصادية- الإجتماعية في مصر.

***

تتحدث أدبيات السياسة الاقتصادية في مصر أن نظام دعم الغذاء المتعارف عليه حالياً قد ظهر خلال أربعينيات القرن الماضي، وتحديداً خلال الحرب العالمية الثانية كمحاولة من النظام الملكي وقتها لتخفيف تبعات ارتفاع أسعار ونقص إمدادات الغذاء بسبب الحرب على الطبقات الفقيرة. ومع تعاقب السنوات، تكون لدى المصريين قناعة راسخة بأن شرعية النظام الحاكم تستمد من التزامه وقدرته على توفير الغذاء والسلع الأساسية بأسعار مدعومة وفي متناول المواطنين -- عاصم أبو حطب.

وخلال الحقبة الناصرية وتوجهاتها الإشتراكية، صار الدعم سمةً أساسيةً للسياسات الاقتصادية، فظهرت البطاقات التموينية، وتوسع برنامج دعم الغذاء فيما يتعلق بمعدل التغطية وعدد السلع المدعومة. ولم يشكل هذا عبئاً على موازنة الدولة في ذلك الوقت، حيث كان القطاع الزراعي وقتها محركاً للنمو الاقتصادي وكان الإنتاج الزراعي يتناسب مع احتياجات السكان وكانت مصر تتمتع بمستويات مرتفعة من الاكتفاء الذاتي في العديد من السلع الزراعية.

ولكن مع انتصاف السبعينات واختلال التوازن بين الإنتاج والإستهلاك بسبب الزيادة السكانية المستمرة، إلى جانب السياسات الزراعية والاقتصادية التي نتج عنها تراجع أهمية القطاع الزراعي في الاقتصاد القومي، ثم تحول مصر لمستورد صافٍ  لعدد من السلع الزراعية، وتزامن ذلك كله مع ارتفاع أسعار السلع الزراعية والغذائية في الأسواق العالمية، ارتفعت فاتورة دعم الغذاء في مصر وأصبحت تشكل عبئاً على الموازنة العامة للدولة. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر طن القمح في السوق العالمي من 60 دولار عام 1970 إلى ما يقارب 250 دولار عام 1973، ونتج عن ذلك ارتفاع تكلفة واردات القمح من 150 مليون دولار إلى حوالى 400 مليون دولار خلال نفس الفترة. كما ارتفعت التكلفة الإجمالية لقيمة دعم الغذاء من 3 مليون جنيه مصري عام 1970 إلى حوالى 1.3 مليار جنيه عام 1980. وللتعامل مع الأزمة وتداعياتها على الموازنة العامة للدولة، اتخذت الحكومة وقتها عدداً من القرارات بشأن رفع أسعار بعض السلع الغذائية المدعومة، مما تسبب في أحداث يناير عام 1977 الشهيرة وما صاحبها من أعمال عنف واضطرابات اجتماعية كادت تعصف بالنظام السياسي.

ومنذ ذلك الحين، أضحى لدى الحكومات التي توالت على حكم مصر قناعة بأن قضية الدعم في مصر "خط أحمر" وأن الاقتراب أو المساس بها هو عبث بالسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي -- عاصم أبو حطب في البلاد. يذكرنا هذا بالمشهد المتكرر في الأفلام العربية القديمة عندما يستأجر البطل بيتاً فيعطيه المستأجر الحرية الكاملة في استخدام المكان باستثناء غرفة واحدة، لتبقي لغزاً يخفي خلفه "عقدة" القصة، كذلك كان حال دعم الغذاء في مصر: توارثته الأنظمة المتعاقبة من غير أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه حتى لا يفتح على نفسه أبواباً من المشكلات التي لا قبل له بها.

وأدرك نظام مبارك هذه الحقيقة وتعامل مع ملف الدعم بأعلى درجات الحذر، فخلال عهده توسع برنامج دعم الغذاء لتشكل تكلفته حوالى 20.5% من إجمالي الإنفاق الحكومي عام 1982، وتصبح غير محتملة من الناحية التمويلية في ظل التزايد المستمر في واردات القمح وأزمة النقد الأجنبي وتزايد عجز الموازنة وأزمة الديون الخارجية. ولذلك، فقد ارتكزت سياسة نظام مبارك في التعاطي مع ملف الدعم على إحداث تعديلات غير مباشرة وتخفيضات بطيئة وغير ملموسة على السلع المدعومة، كالتقليل التدريجي في عدد السلع أو تثبيت أسعارها مع تقليل جودتها أو تخفيض أوزانها، وغيرها من الإجراءات التي نجحت تدريجياً في تحقيق أغراضها بدون أن يشعر المواطن بتأثيرات سلبية فجائية على مستوى معيشته ومن ثم تفادي تكرار أحداث 1977. ورغم كل محاولات الإصلاح المستمرة لنظام الدعم، تضاعفت قيمة الإنفاق الحكومي على دعم الغذاء خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك، فعلى سبيل المثال، ارتفعت قيمة دعم الغذاء بين عامي 2007 و 2010 من 2.3 مليار دولار إلى حوالى 4.6 مليار دولار متأثرة بأزمة الغذاء العالمية عام 2008 وارتفاع الأسعار العالمية للسلع الزراعية.

وفي أعقاب ثورة 25 يناير 2011، تزايد حرص الحكومات على التعامل الحذر مع دعم الغذاء، لا سيما في ظل الحالة الثورية التي طغت على المشهد السياسي العام في البلاد، فتم الاستجابة للمطالب الفئوية، وارتفعت المرتبات، وتوسعت شبكة الضمان الإجتماعي، مما ساهم بشكل كبير في تزايد عجز الموازنة. وفي ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وتدهور قيمة العملة المحلية، والإضطرابات السياسية خلال السنوات الأربع الماضية، أصبحت إعادة هندسة دعم الغذاء في مصر والذي تجاوزت فاتورته 37 مليار جنيه خلال العام المالي 2014-2015 ضرورة ملحة ودواء مر لا بد منه. فلم يكن من المنطقي الاستمرار في تبني نظام ثبت فشله في تحقيق الغرض الأساسي منه، وهو توفير الضمان الإجتماعي للطبقات الفقيرة على مدار سبعة عقود. فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات المعهد الدولي لبحوث سياسات الغذاء أن نسبة مستحقي الدعم في مصر لا تتجاوز 30% فقط من السكان؛ الأمر الذي يعني تسرب مخصصات الدعم وحصول نسبة كبيرة على دعم لا يستحقونه.

***

وبناءً على ما سبق من بيان لحساسية قضية دعم الغذاء في مصر، فإنني أرى أن نجاح الحكومة الحالية في اتخاذ قرارها الجرئ في يوليو عام 2014 بخفض دعم الغذاء من 34.6 مليار جنيه إلى 31.6 مليار جنيه، إلى جانب تبني حزمة من السياسات الرامية إلى إعادة هيكلة دعم الغذاء في مصر، ثم تمرير هذه الاجراءات بدون أحداث عنف وتأثيرات سلبية على السلم الإجتماعي العام، هو خطوة ناجحة في حد ذاتها. طبعاً، لا أنكر أن حالة الاستقطاب التي تسيطر على الشارع المصري قد ساهمت بشكل جوهري في تحقيق ذلك إلا أنني لا أقف أمام ذلك طويلاً بل أعتبره وبنظرة براجماتية من باب حسن استغلال الظروف والاستفادة من معطيات الواقع في تحقيق أهداف السياسة الإقتصادية.

ولكن يجب أن نؤكد أن "فتح" ملف الدعم لا يعني مطلقاً نجاح العملية. فتشير تقديرات المعهد الدولى لسياسات الغذاء، إنه لو غاب الدعم لارتفع معدل الفقر بمعدل 20% إضافية. وبذلك فإن ما تحقق ليس أكثر من مجرد خطوة هامة على طريق طويل، يستلزم استراتيجية شاملة للاستمرار في هذه الإجراءات الإصلاحية التي أصبحت ضرورة ملحة لتخفيف عجز الموازنة العامة، وفي ذات الوقت مراعاة أبعادها الاجتماعية والتعامل مع تأثيراتها السلبية المتوقعة على الطبقات الفقيرة، وهناك العديد من التجارب الناجحة على المستوى الدولي والإقليمي نجحت فيه دول كثيرة في تنفيذ سياسات متوازنة لتقليص برامج الدعم الموجه للغذاء من ناحية، وإعادة توجيه الوفورات المالية المتحققة نحو تنمية البنى التحتية في الأماكن الفقيرة وتحسين الخدمات العامة كالصحة والتعليم والاستثمار في المشروعات الصغيرة والمولدة لفرص العمل والدخول الثابتة للقطاعات الفقيرة من السكان من ناحية أخرى.

أخيراً، فإنني أعتقد إنه في حال نجاح النظام الحالي وحكومته في إعادة هندسة دعم الغذاء في مصر، فسيكون ذلك أحد أهم العلامات المميزة لهذه الحقبة في تاريخ مصر

نشر
محتوى إعلاني