محمد يوسف يكتب: هل يمكن زيادة الإنفاق العام في مصر بهدف ترشيده؟
هذا المقال بقلم محمد يوسف، أستاذ الاقتصاد المساعد ، وعضو الهيئة العلمية بمعهد الإدارة العامة السعودي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، والآراء الواردة فيه تعبر عن وجهة نظر صاحبها، ولا تعكس بالضرورة رأي شبكة CNN.
ليس هناك خلاف على ضرورة التصدي لعجز الموازنة الحكومية في مصر، ليس لأن هذا العجز قد تخطى الحدود الآمنة فحسب، ولكن لأن تفاقمه أصبح يشكل قيدًا رئيسيًا على خطط التنمية الاقتصادية التي تتبناها الحكومة حاليا.
دعنا نقرر في البداية أن نمو الإنفاق الحكومي يعد هو المسئول الأول عن نشوء وتفاقم العجز في موازنة الحكومة، ولذلك فإن إجراءات ترشيد هذا الإنفاق تصبح هي المدخل الصحيح لمحاصرته. ودعنا نقرر أيضا أن مسؤولية هذا الإنفاق عن تفاقم العجز لا تختلف في حالة إذا ما وجهت تلك النفقات لبنود الأجور أو أُنفقت على شراء السلع والخدمات لوحدات الحكومة أو حتى خصصت لبنود الدعم المختلفة. ثم دعنا الآن نتساءل، هل يمكن لبعض النفقات الحكومية أن تساهم في ترشيد الإنفاق الحكومي؟ وبمنطق آخر، هل يمكن أن نزيد الإنفاق العام بهدف وبغية ترشيده؟
للوهلة الأولى، إن تساؤلًا كهذا يتعارض مع المنطق الرياضي بل ويتعارض أيضًا مع أصول علم المالية العامة. ذلك أن كل زيادة تحدث في الإنفاق دون أن يواكبها نمو مقابل في الإيرادات، ستزيد من القيمة المطلقة للعجز. مع ذلك بيد أن إمعان النظر في بعض أوجه الإنفاق الحكومي يظهر أن تلك النفقات لا تخضع لهذه المعادلة الرياضية المذكورة، بمعنى أن كل زيادة في تلك النفقات يمكن أن تُرشد من الإنفاق الحكومي الإجمالي .
***
على هذا الأساس فإننا نجد تأييدا على ما نقول عندما نرى الآثار الايجابية لنفقات تنظيم بنود الأجور ونفقات الرقابة على المشتريات الحكومية ونفقات التطوير التكنولوجي لمنظومة "الدعم الرقمي" كي يُضمن وصوله لمستحقيه. ويمكننا أن نوضح ذلك بأن نعدد في النقاط الثلاثة التالية أهم الآثار الإيجابية لهذه الأنواع من النفقات والتي تؤيد رأينا السابق:
إن أول بند من بنود النفقات التي نقترحها لترشيد بنود الأجور والتي تشمل ( الرواتب والمكافآت والبدلات ) في القطاع الحكومي، تتمثل في التوسع في نفقات التنظيم الأفقي للأجور. ويمكن أن يحدث ذلك بتطوير نظام تكنولوجي يعمل على تعميم سياسة أُجرية واحدة على جميع الجهات الحكومية دون استثناء ( وحدات الإدارة العامة والهيئات الاقتصادية ووحدات القطاع العام ) بل ولابد أن يتم ربطه بوزارة المالية. ويمكن لهذا النظام في حالة تطبيقه أن يساهم في كبح نمو نفقات الأجور في موازنة الحكومة، وفي الربط بين هذه الأجور وبين الإنتاجية الكلية للأجهزة الحكومية وموظفيها، ويمكنه كذلك أن يعزز الرقابة على الأداء الحكومي في حالة معاملة كل وحدة حكومية كمركز تكلفة مستقل .
مع ذلك فإن الآثار الإيجابية المتوقعة لهذا التنظيم الأفقي للأجور تزداد إذا سلمنا بأن النمو في نفقات الأجور يرجع، ضمن ما يرجع، للتباين الشديد بين الوحدات الحكومية في نظام الأجور والرواتب المطبق فيها. وبالتالي فإن الربط التكنولوجي سيكشف مكامن الخلل في هذه المنظومة، ويعيد الانضباط لسلم الرواتب في كافة الوحدات الحكومية مع ربطه بالإنتاجية .
***
أما البند الثاني لنفقات ترشيد الإنفاق هو المتعلق بنفقات تطوير آلية تكنولوجية للمشتريات الحكومية من السلع والخدمات، والتي يمكنها أن تضمن الحد الأعلى من التنسيق في عمليات الشراء ، بل والحد الأدنى في تكاليف الشراء والتوريد . وقد يكون من الملائم الاعتماد على أدوات التجارة الالكترونية المتطورة من أجل تحقيق هذا الهدف ، ويمكن أن يتم ذلك بإنشاء بوابة حكومية على الانترنت لجميع الإعلانات والمناقصات والمزايدات والمشتريات والمبيعات الحكومية .
أما إذا انتقلنا الآن إلى نفقات الدعم ، باعتبارها البند الثالث من النفقات المقترحة لترشيد الإنفاق، فليس من شك أنها من أكثر بنود الإنفاق الحكومي قاطبة إثارة للجدل . خاصة وأن الحديث عن اشتراطات صندوق النقد الدولي لتقليص نفقات الدعم، بل والسعي الحكومي لأن تصل لمستحقيها ، هو مما تسير به الركبان. ومع ذلك فإن الجهد الحقيقي لترشيد هذا النوع من النفقات لن يحدث عندما تكتفي الحكومة بتقليل هذا الإنفاق كرقم مطلق وكنسبة من إجمالي الإنفاق، ولكنه يحتاج أيضًا للإنفاق على تطوير منظومة متكاملة ومترابطة خاصة بهذا الدعم . واقصد بذلك ضرورة ربط جميع أطراف منظومة الدعم بتكنولوجيا رقمية حتى نضمن وصوله لمستحقيه فقط .
ويمكننا القول في ذلك إن "منظومة الخبز" التي طبقتها وزارة التموين تعتبر مصداقا على ما نقول. فعلى الرغم مما يعتري تلك المنظومة من أوجه قصور، إلا أننا لا ننكر الإجماع على ما حققته من انجاز في تقليل الهدر في فاتورة دعم الخبز . يعني ذلك أن المبالغ التي أُنفقت على تطوير تلك المنظومة تصبح زهيدة إذا ما قورنت بحجم الوفورات المالية التي حققتها.
إننا حين ندعو للإنفاق على تطوير منظومة الدعم الرقمي لترشيد نفقات الدعم، لا نقصد استثناء نفقات دعم الطاقة، سواء منها المقدم للمنتجين أو المقدم للمستهلكين، بل إننا نؤمن بأن تلك المنظومة لن يكتب لها النجاح في ترشيد الفاتورة الإجمالية للدعم إلا إذا صممت خصيصا لتوجيه دعم الطاقة لمستحقيه، لما يشكله ذلك من أهمية نسبية مرتفعة في فاتورة الدعم الإجمالية. ويحدث ذلك بتوسيع الإنفاق على الربط التكنولوجي بين موردي الطاقة وبين مستحقيها فقط.
***
هناك إذن ثمة نفقات حكومية تحتاج للزيادة، وهي النفقات التي تساعد الحكومة على ترشيد الإنفاق، وهي كما رأينا متعددة ومتنوعة. ولئن كان الترشيد هدفًا نبيلًا في حد ذاته، إلا أن نبل الهدف لا يُغني عن سلامة وسيلة تحقيقه.