سوريّون يتذكّرون رمضاناتهم: بالصوت، والرائحة، ومرارة آلام الفقدان
دمشق، سوريا (CNN)-- "رائحة رمضان تعبق في الجو"... ربما هذه العبارة هي الأكثر تداولاً على ألسنة الناس في دمشق هذه الأيّام، إلا أنّ الرائحة هنا ليست بمعناها الحسّي، بقدر ماهي حالةٌ شعوريّة، تختلط بأمنيّات سكّان العاصمة السوريّة، بأن يكون الشهر الكريم في العام الحالي، أكثر أماناً، مقارنةً بثلاثة رمضاناتٍ ساخنة مضت، مرّت على سوريا وسط الحرب.
ما يعزز الشعور بهذه الرائحة، استعدادات المحلات التجارية لتأمين مستلزمات الناس في رمضان، حيث بدأنا نرى منذ أيام التمور بأنواعها على "بسطات" الباعة، في الأسواق، إلى جانب مغلفّات "التمر هندي" التي لا غنى للدمشقيين عنها في الشهر الفضيل، سواءً لنقعها وتحويلها لعصيرٍ ممزوج بماء الورد، أو لإضفاء الحموضة المميّزة على أكلة "الحرّاق بأصبعه" الشعبية الشهيرة بدمشق، كذلك لا يستغني الدمشقيون خلال الشهر الفضيل عن رقائق "قمر الدين" المصنوعة من المشمش، لتتحول بين أيدي ربّات المنازل إلى عصيرٍ له نكهة "الشام"، وبين كل تلك العصائر، لايزال منقوع "العرقسوس" الشراب الأكثر شعبيّةً في رمضان، كما يؤكد لنا الحاج "أبو عبدو" الذي يعمل مع إخوته، على إعدادها وبيعها للزبائن، في محل بحي "الشعلان"، يعود تاريخه إلى العام 1950، ولازال محتفظاً بمكانته لدى قاصدي سوق "التنابل"، بما يقدّمه من أشربه، تطول قائمتها، ذكر لنا منها: الليمون بالنعناع، والرمّان، وقمر الدين، والجلاب، والتمر هندي، والعرقسوس بطبيعة الحال.
قدوم شهر رمضان، يعني لـ "أبو عبدو" وإخوته الكثير من العمل، يصلون به الليل بالنهار، كما يشرح لـ CNN بالعربية بقوله: "خاصّة خلال الأيام الثلاثة الأولى، حيث يتوجب علينا إعداد 500 ليتر من كل نوع، لبيعها يومياً، وربما تزيد الكمية إلى أكثر من ذلك، فرمضان خلال السنوات الأخيرة يأتي في الصيف، ولا غنى للناس عن العصير الذي يروي ظمأهم، بعد صيامٍ طويل"، أما الأسعار، فيشير "أبو عبدو" إلى أنها على حالها هذا العام، بعد أن اضطروا لرفعها العام الماضي، بنسبة 30 في المائة مقارنةً بالسابق، بسبب غلاء المواد بشكلٍ عام، وانخفاض القوة الشرائية لليرة السوريّة بشكلٍ كبير.
كما أكد الباعة لـ CNN بالعربية، استقرار الأسعار في العام الحالي، إذ يتزاحم زبائن محل "حجازي"، أحد أشهر محلات الأجبان والألبان بسوق "باب سريجة"، على شراء مؤونة السحور، مثل "الجبن الشلل، والبلدي، والعكّاوي، والزيتون، والحلاوة الطحينية، والمربيّات..."، كما تتكدس بالقرب من هذا المحل أكوام البطيخ الأحمر، والأصفر بنوعيه "المعرّاوي"، والأناناس كما يحلو للناس تسميته، وتبدو هذه أنواع الفواكه هذه الأكثر شعبيةً في رمضانات الصيف.
وفي السوق ذاته، تنتشر محلاّت "البزوية"، حيث يقبل الزبائن على التزود بالبهارات، والمنكهات، وأنواع الأرز، والبرغل، والفريكة، نتجوّل على تلك المحلات، التي تتفنن بعرض بضائعها، فتطالعنا ابتسامة رجلٍ ستيني، يبادر لإخبارنا، بتوفر بدائل جديدة، لديه عن تلك الموجودة في "المولات التجارية"، كـ"مسحوق شوربة الفطر"، أو "كريما الطبخ المجففة"، نسأله عن لهجته الحمصيّة، فيخبرنا أنّه ترك حمص بسبب ظروف الحرب، وأسس له تجارةً جديدة في دمشق، تسأله CNN بالعربية: "هل أمورك بخير هنا؟" ويجيب: "ليس مهماً، عملنا لسنوات، وجمعنا الكثير من الأموال، وكلّها ذهبت، وعدنا وبنينا من جديد، بانتظار ما سيكون."
نغادر "باب سريجة" إلى الميدان، سوق "الجزماتية" تحديداً، السوق الأشهر لبيع الحلويات في دمشق، والذي اتخذ زينته الرمضانية، نتجوّل على المحلات، فتستوقفنا محلات "أبوعرب" الشهيرة هنا، استفسارٌ صغيرٌ فقط، كان كفيلاً بأن نلقى حفاوةً خاصّة، حيث عدّد لنا البائع، قائمة تطول بأنواع الحلويات الخاصة برمضان، مع إصرارٍ شديد على ضرورة التذّوق، "ما بيصير هي ضيافة"، ولكم أن تتخيلوا، طعم "الغريبة بالقشطة، والنهش، والنمّورة،....".
ولكن رمضان في دمشق، أو في أي مكانٍ من العالم الإسلامي، ليس مائدة عامرةً فقط، بل اجتماع للعائلة، وهذا أكثر ما يفتقده الكثير من السوريين اليوم، ممّن تشتت عائلاتهم على أرض بلادهم، وفي أرجاء الأرض الواسعة، ثمّة من يحاربون على الجبهات سيمون بـ "شهداء، معتقلون، مخطوفون، مفقودون، نازحون"، تعددت المسميات لكنهم؛ "جميعاً غائبون" ولغيابهم نكهة المرارة برمضان، تشرح "أم زهير" ، لكنهّا تصبرّ نفسها، وتقول لـ CNN بالعربية، "الحمد لله أنا أولادي الثلاثة بخير، ابني الأكبر، وابنتي الصغرى، يعملان في دبي، ويقيمان هناك مع عائلتيهما، وأخوهم الأوسط يتابع دراسته بألمانيا، ومعه زوجته"، وتضيف بلهجتها الشاميّة: "ما في عليهن شي"، أي ليسوا مطلوبين من أي جهة، وتتابع: "لكننا خشينا عليهم، وطلبنا منهم أن لا يعودوا حتى تهدأ الأوضاع، ونأمل ذلك قريباً، نشتاق لهم، نتحدث معهم دائماً عبر .سكايب.، لكن البيت فارغٌ من حولي أنا وأبوهم."
وإلى جانب اجتماع العائلة، ثمّة عادةٌ يحرصُ عليها الدمشقيون خاصّةً في رمضان، وهي الـ "السكبة"، حيث يتبادل الجيران أطباقاً مما أعدوه على مائدة الإفطار، ربما تراجعت هذه العادة مؤخراً، تحت ضغط الوضع الاقتصادي، لكن هناك من أعاد إحياءها وتوظيفها، لتوفير الطعام للعائلات المحتاجة، والتي تكاثر عددها، بسبب ظروف الحرب، وضمن هذا الإطار أطلق مشروع "بادر" التنموي، مبادرة "سكبة رمضان" للسنة الثانية على التوالي، ودعا للتطوع في صفوف المبادرة عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أو المساهمة بمواد غذائية لطبخها، وتوزيعها على الأسر الفقيرة.
ويبقى مدفع رمضان، من أبرز علامات الشهر الكريم، لتعلن طلقاته الثلاث الشهيرة، موعد الإفطار، والسحور، والإمساك عن الطعام، لكن صوت المدافع، آخر ما ينتظر السوريون سماعه، في ظل الحرب التي دخلت هذه السنة عامها الرابع، ويوصي بعضهم البعض مطلع رمضان من باب التندر، "مو كل ما اسمعت صوت مدفع تفطر."