رأي.. طارق عثمان يكتب لـCNN: التغيُرات الحقيقية في الرؤية الأمريكية للعالم العربي وفي الرؤية العربية لأمريكا
هذا المقال بقلم طارق عثمان، الكاتب والمعلق السياسي، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
مع الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، بدأت ثلاثة أخطاء تظهر في التصورات حول اتجاهات إدارة چو بايدن القادمة نحو العالم العربي.
1- الخطأ الأول هو تصورها استكمالا لما توقف عند انتهاء إدارة باراك أوباما. ذلك لأن الكثير قد جرى في الأربع سنوات الماضية خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، مما غيَر الواقع في الملفات ذات الأهمية للولايات المتحدة. و أيضا لأن چو بايدن، وإن كان نائب الرئيس في عهد أوباما، إلا أن التاريخ الأمريكي علمنا أن نائب الرئيس، في أي إدارة، جزء صغير من ماكينة صُنع القرار. وإذا أصبح رئيسا، فدائما كنا نرى أفكار و رؤى جديدة له. الشئ نفسه سيحدُث مع چو بايدن.
2- الخطأ الثاني هو أننا يمكننا تصور أولويات وأساليب عمل إدارة بايدن من خلال مراجعة أولويات وأساليب عمل الحزب الديمقراطي في الشؤون العربية في العقد الماضي. وذلك ايضاً خطأ، لأن بايدن (بتاريخه الطويل) يمثل اتجاهات في الحزب بعيدة عن تيارات أوباما وحتى هيلاري كلينتون وچون كيري (وزيري خارجية إدارتي أوباما).
3- الخطأ الثالث هو تصور عهد دونالد ترامب على أنه لحظة نشاز في مقطوعة موسيقية متسلسلة. ذلك لأن ترامب، بغض النظر عن أسلوبه الخاص، اتخذ قرارات وسار في سياسات كانت تعبيرًا عن تغيرات مهمة في رؤية الولايات المتحدة للعالم العربي، وتغيرات في الواقع الأمريكي نفسه، وتغيرات في الساحة الدولية .. وهنا يجب أن يكون التركيز، لأن تلك التغيُرات لا رجعة فيها، وفهمها ضروري لأنها حاكمة في علاقة أمريكا بالعالم العربي في المستقبل المنظور.
أولا: التغيرات في رؤية الولايات المتحدة للعالم العربي:
مع نزول تكلفة إنتاج الطاقة الحجرية وسرعة تطور الطاقة البديلة في الولايات المتحدة، نحن الآن في نهايات عصر البترول كالطاقة الرئيسية في العالم والتي يحتاج اليها الغرب للحياة. ذلك أدى بالفعل، في العقد الماضي، إلى تخفيض تدريجي في أهمية العالم العربي للولايات المتحدة.
هناك أيضاً تراجع في أهمية العالم العربي كخطر .. بمعنى أن تصور العنف المستخدم باسم الإسلام على أنه خطر داهم على الولايات المتحدة ومصالحها في العالم، قل جداً في العقدين الماضيين، وأصبح في نظر الكثير من مراكز الفكر الأمريكية، مثله مثل أنواع مختلفة من المشاكل، قابل للاحتواء.. وذلك أدى إلى تقليل الاهتمام الامريكي بتفاصيل التطور المجتمعي في العالم العربي.
ثانيا، هناك التغيُرات في الواقع الأمريكي.
نجاح دونالد ترامب كان الحلقة الجديدة من صعود اليمين المسيحي في الولايات المتحدة كواحد من أقوى التيارات الاجتماعية، بشكل رئيسي بسبب قدرته على التعبئة. هزيمة ترامب أمام چو بايدن لم تُغير من ذلك الواقع. لذلك فلسوف نرى أن الحزبين الكبيرين في الولايات المتحدة (الجمهوري و الديمقراطي) سيحاولان التأثير في ذلك التيار من أجل إدخاله في الوسطية السياسية، و لكنهما لا شك لن يُحاولا استعدائه. والواقع أن الملفات المتعلقة بالشرق الأوسط التي يهتم بها هذا التيار، من أسهل ما يُمكن أن يقدمه الحزبان لاستمالته. معنى ذلك أن الرؤية الامريكية حول بعض النقاط داخل ملفات مثل الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، لن تتغير بشكل كبير في المرحلة القادمة. سنرى تغير في اللغة وفي الأساليب، لكن ليس في الجوهر والاتجاه.
هناك تغير آخر هنا، عربي و لكنه مؤثر في الداخل الأمريكي وعلاقته بالعالم العربي .. و هو أن الرؤى العربية الأكثر نفوذا في الولايات المتحدة قد اختلفت. حتى فترة ليست ببعيدة، كانت الدول العربية الكبرى، خاصة المملكة العربية السعودية ومصر، لديها عمق في العلاقات وثقل في الحوارات مع مراكز صُنع القرار في واشنطن. لكن الصورة اختلفت الآن. دول مختلفة، مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر ومجموعات مصالح في دول أخرى، مثل لبنان، استثمرت بشكل كبير (وإلى حد بعيد بنجاح) في توسيع و تعميق علاقتها في الولايات المتحدة. و قد حدث ذلك في العقد الماضي الذي قل فيه تأثير المؤسسات التقليدية في واشنطن في صُنع القرار الأمريكي في مقابل ازدياد في تأثير شركات ومجموعات مختلفة. والحاصل من ذلك ان حدث تغير في مركز التركيز في الرؤية الأمريكية للعالم العربي .. بمعنى، ان ذهب اتجاه النظر الأمريكي من منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط (حيث الأولويات و المشاكل التقليدية) إلى الخليج، و ليس إليه كمصدر للطاقة، ولكن كحيث يوجد أصدقاء و ممولون. وغالباً فإن التركيز سيبقى على هذه المنطقة – مرة أخرى، ليس من ناحية مستقبلها، ولكن من ناحية وجود مصادر مال فيها تريد شراكات مع مصالح في الولايات المتحدة. وذلك نوع من العلاقات بعيد عن مؤسسات القرار التقليدية ولكنه واصل إلى المصالح (سواء لمجموعات أو لأشخاص مهمين).
ثالثا، التغيُرات في الساحة الدولية:
وسط العالم كما كان يُعرَف قديما (أوروبا والشرق الأوسط) أصبح أقل أهمية للولايات المتحدة من آسيا، حيث القوة التي على وشك أن تصبح عظمى (الصين) و حيث أهم وأكبر الأسواق، وحيث المدخرات المالية الأكبر في العالم، و حيث صراعات محتملة لها في الاستراتيجية الأمريكية أهمية أكبر بمراحل من كل ما يدور في الشرق الأوسط والعالم العربي. نتيجة ذلك: أولاً: ان الولايات المتحدة ستقلل من ما تنفقه (من تركيز وطاقة عمل ورأس مال سياسي) في العالم العربي.. و ثانياً: أنها ستحاول أن تأخذ من المنطقة (و هي في رؤيتها، منطقة نفوذ أمريكي) ما يساعدها في صراعها الرئسي القادم في آسيا. و في هذا ليس فقط تخفيض من أهمية المنطقة، ولكن أيضاً تنزيل من أهمية بعض التحالفات و التعهدات الأمريكية القديمة.
بالإضافة إلى كل ذلك، هناك تغيرات أخرى مهمة: في رؤية دوائر عربية مؤثرة للولايات المتحدة.
1- انه بعد عقدين من الحروب الأمريكية المتواصلة في الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة تبدو لكثيرين كعملاق يتحرك، وحركته خطرة، و لكن بلا أهداف واضحة. ذلك لأن كل الحروب الأمريكية في المنطقة في العقدين الماضيين لا تبدو أنها حققت أهدافا استراتيجية كبرى للولايات المتحدة .. تلك الرؤية (وإن كانت قابلة للنقاش) أفقدت أمريكا الكثير من هيبتها في الشرق الأوسط، كما أضعفت التصور العربي القديم لها، كإمبراطورية ذكية تسعى بعملية من أجل أهدافها.
2- إن أغلب دوائر صُنع القرار العربي لديها الآن قناعة بأن الصين لديها فرصة (على الأقل) معقولة في تحدي مصالح الولايات المتحدة في عدد من المناطق في العالم. كما أن روسيا قد استطاعت أن تُعيد إحياء قدر من قوة الاتحاد السوڤيتي، ليس كدولة عظمى، ولكن كدولة ذات مصالح لا يمكن تعديها. وكل ذلك قلل من صورة الولايات المتحدة (منذ الثمانينات) عن أنها الدولة ذات الحل والربط في كل شيء وأي شيء. و النتيجة هنا، أن تلك الدوائر العربية، منذ فترة، بدأت تضع البيض في سلال مختلفة.
كل ذلك لا يعني أننا أمام ابتعاد أمريكي عن المنطقة، كما أننا لسنا أمام مراهنة عربية على القوى المنافِسة للولايات المتحدة. ولكن تلك التغيُرات – على الجانبين الأمريكي والعربي – تستدعي وقفة للنظر في مستقبل العلاقة الأمريكية مع عدد من الدول و المناطق في العالم العربي، لأن ما هو قادم لا شك مختلف عما كان، منذ عقود أو منذ سنوات قليلة.