رأي.. دكتور زاهر سحلول يكتب لـCNN: دروس من الأزمة السورية في معركتنا ضد كورونا
هذا المقال بقلم الدكتور زاهر سحلول، طبيب سوري-أمريكي ورئيس منظمة "ميدغلوبال" الإنسانية، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
"هل قامت القيامة؟"، هذا ما كان قد تمتم به الدكتور صنوفي لفريقه بينما يزداد تدفق الأدرينالين لديه وهو يتحرك بسرعة بين عشرات المرضى الذين ينتظرون بشدة دورهم في الحصول على الاكسجين. كان عليه أن يقرر بسرعة أي المرضى يجب إنعاشهم واعطاؤهم فرصة بالعيش مرة أخرى وأي المرضى الذين لا يرجح أن تكون لديهم فرصة النجاح فهو لم يكن باستطاعته إنقاذهم جميعًا. لقد كان يعمل طبيبا في مستشفى صغير وكان في مستشفاه عدد محدود من الأسرة وعدد قليل من أجهزة التنفس الصناعي.
خلال ساعات قليلة امتلأت غرفة الطوارئ بأكثر من 700 مريض بدرجات متفاوتة من ضيق التنفس، بعضهم يختنق حتى الموت. بذل فريقه الطبي قصارى جهدهم للتخفيف من الأعراض وإبقاء المرضى على قيد الحياة. أعطوا بعض الأكسجين، والسوائل الوريدية، وموسعات الشعب الهوائية، والأتروبين. وقام الدكتور صنوفي، وهو زميلي في كلية الطب ومن أطباء التخدير الماهرين جدا، بإدخال أنابيب التنفس في الشعب الهوائية لعدد من المرضى الشباب والنساء الحوامل وبعض الأطفال ومن ثم قام بتوصيلهم إلى أجهزة التنفس الاصطناعي حتى نفذت.
هذا ليس مشهدًا من مستشفى في مدينة نيويورك أو شيكاغو في معركتنا مع جائحة فيروس الكورونا بل كان مشهدًا من الغوطة المحاصرة في سوريا وكان ذلك في الساعات الأولى من الحادي والعشرين في شهر أغسطس/ آب عام 2013.
الدكتور صنوفي طبيب سوري في قرية عين ترما في الغوطة الشرقية المحاصرة والتي شهدت إحدى أسوأ هجمات غاز الأعصاب في التاريخ الحديث. لم يستطع إنقاذ الجميع بل ركز على أولئك الذين يمكنهم النجاة باستخدام موارده القليلة وقام بفرز أولئك الذين من غير المحتمل أن يعيشوا في زاوية مختلفة من قسم الطوارئ وتم نقل العديد منهم خارج المستشفى وفي الصباح توفي 141 من مرضاه. لم تزل صور المرضى الذين يحتضرون تطارده حتى يومنا هذا لقد كانت صورا مؤلمة تخنق الروح.
الكوادر الطبية هم بشر يتأثرون كما يتأثر الآخرون خلال المحن والأزمات ولا بد من الانتباه إلى صحتهم النفسية حتى لا تؤدي إلى عواقب طويلة الأمد.
لا شيء في كلية الطب يجهزنا للتعامل مع الكوارث لأن كليات الطب لا تدرب الأطباء على إدارة الأزمات أو التعامل مع الموارد المحدودة أو الاعتناء بصحتنا النفسية وحيث يتوقعون منا أن نعرف ذلك بشكل بديهي.
من خلال عملي التطوعي في "الميدغلوبال" عملت مع أطباء في مناطق مختلفة تمر بالحروب والكوارث مثل غزة والعراق واليمن وسوريا، ولاحظت مدى إهمال المؤسسات والحكومات لصحة الكادر الطبي النفسية. والأمر ليس أفضل بكثير في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تنتشر متلازمة الإنهاك الشديد (الاحتراق) بين الأطباء بنسبة ٣٠-٦٠٪ من المختصين في العناية المركزة، وتؤدي إلى الإرهاق العاطفي والاكتئاب وانعدام الاهتمام والرضى بالعمل.
لقد خلقت الأزمة السورية والتي قد بدأت عامها العاشر الآن ضغطاً غير مسبوق على الخدمات والأنظمة الصحية بسبب الطبيعة الطويلة الأمد للحرب، وما زاد الأمر سوءا هو استهداف الأطباء والبنية التحتية للرعاية الصحية إضافة إلى هجرة الأطباء والممرضات ونقص الإمدادات الطبية والأدوية وتعطيل التعليم والتدريب الطبي.
ويمكن استخلاص الكثير من الدروس والعبر من الأزمة السورية وتطبيقها على جائحة فيروس كورونا. ويمكن للأطباء السوريين أن يقولوا: "لقد كنا هناك وقد فعلنا ذلك على مدى السنوات التسع الماضية".
لم يكن العدو فيروسًا جديدًا، بل كان نظامًا وحشيًا يبرر إلقاء البراميل المتفجرة والغازات السامة على المدنيين المحاصرين والمشافي. النتيجة كانت هي نفسها: فلقد وجد الأطباء السوريون أنفسهم يكافحون من أجل إنقاذ أرواح المدنيين والأطفال بموارد محدودة جدا وفي غالب الأحيان من دون أن يبالي بهم أحد.
قامت عدة منظمات بتوثيق أكثر من 336 هجومًا بالأسلحة الكيميائية في سوريا، وبالعودة إلى صديقي الدكتور صنوفي فقد أصيب عدد من أعضاء فريقه المسعف في تلك الليلة المشهودة بالشلل وانقباض في بؤبؤ العين والضيق التنفسي وهي السمات المميزة للتعرض لغاز الأعصاب ولم يكن لديه ما يكفي من الواقيات و الكمامات ولا الدواء ولا أجهزة التنفس الصناعي مما أدى إلى موت عدد منهم.
بعد 6 سنوات من مذبحة غاز السارين، ما زالت ذكريات تلك الليلة تطارد الدكتور صنوفي. ولا تزال تجول في خاطره صور الماضي. خلال عمله تحت الحصار كان يركز مثل العديد من زملائه على إنقاذ مرضاه لدرجة أنه تجاهل صحته النفسية.
لحماية أنفسهم جسديًا ونفسيا قام الأطباء السوريون بتنفيذ عدة استراتيجيات كبناء المستشفيات تحت الأرض وداخل الكهوف لحماية أنفسهم ومرضاهم من البراميل المنفجرة والصواريخ كما نفذوا أيضا استراتيجيات لحماية الصحة النفسية من خلال توفير الإسعافات الأولية للصحة النفسية وتوفير الاستراحات الملزمة خلال أيام العمل الطويلة والمرهقة كما أنشأوا مرافق للتمارين الرياضية داخل المستشفيات، وأضافوا الإجازات الإلزامية والسفر إلى أماكن آمنة كتركيا وتوفير أماكن إقامة آمنة لعائلاتهم إضافة إلى الصلاة والممارسات الروحية كالدعاء والذكر المتوافقة مع العادات والقيم المحلية.
لقد أصبحت الكوارث هي القاعدة الطبيعية في حياتنا بسبب الحروب والتغيرات المناخية وتعدي البشر على مواطن الحيوانات وعوامل أخرى كثيرة ونحن بدورنا يجب أن نخطط جيدًا لمثل هذه الحتميات من خلال بناء المرونة في الكوادر الصحية بحيث يمكنها أن تتعامل بطريقة أفضل مع الكوارث ففاقد الشيء لا يعطيه.
لقد تعامل الأطباء السوريون مع أزمات لا نهاية لها وكانت الأزمات هي القاعدة وليس الاستثناء في حياتهم. يمكننا أن نتعلم من صمودهم ونحن نكافح هذه الجائحة التي أثرت على كل العالم.