"هجرة النيل العظيم" الأكبر للثدييات والمشهدية الأروع سُجّلت في جنوب السودان
ملاحظة المحرر: "نداء الأرض" عبارة عن سلسلة تحريرية من CNN تلتزم بتقديم التقارير حول التحديات البيئية التي تواجه كوكبنا، والحلول لمواجهتها. أبرمت رولكس عبر مبادرة "الكوكب الدائم" شراكة مع شبكة CNN لزيادة الوعي والمعرفة حول قضايا الاستدامة الرئيسية وإلهام العمل الإيجابي
دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- من الجو، ترى بقعًا ذهبية وبنية اللون تكسو العشب مثل النمل. عند تكبير الصورة ستميّز القرون والظهور والأرجل تتحرّك بالاتجاه ذاته. تعبر الظباء، مئات الآلاف منها، سهول السافانا في جنوب السودان.
وكانت الحرب دمّرت الدولة الواقعة في وسط أفريقيا خلال العقود القليلة الماضية، ما جعلها غير آمنة للبحث العلمي. ونتيجة لذلك، كانت البيانات المتعلقة بحركة الحياة البرية هناك محدودة. لكن تقريرًا نُشر هذا الأسبوع قدّر أن جنوب السودان يُعد موطنًا لأكبر هجرة معروفة للثدييات البرية على الأرض.
ويُعتقد أن خمسة ملايين كوب ( نوع من الظباء الموجودة بأفريقيا) أبيض الأذنين، و300 ألف تيانغ (نوع آخر من الظباء)، و350 ألف غزال مونغالا، و160 ألف ظبي بوهور (جميع أنواع الظباء) تجتاز المساحات الطبيعية سنويا، وتنتقل من السافانا في جنوب البلاد نحو الأراضي الرطبة في الشمال والشرق. .
وتأتي هذه التقديرات من مسح جوي أُجري عام 2023، للأراضي المحيطة بمنتزهي بوما وبادينجيلو الوطنيين، ومنطقة جونقلي، التي يشار إليها باسم "مشهد هجرة النيل العظيم".
حلقت طائرة فوق مساحات من الأرض على ارتفاع ثابت فوق سطح الأرض، وأخذت عينات من 4000 كيلومتر مربع (1500 ميل مربع) تقريبًا من مساحة 122 ألف كيلومتر مربع (47000 ميل مربع)، فيما سجّل أحد المراقبين ما رأوه بواسطة كاميرا مثبتة على الطائرة تلتقط صورة كل ثانيتين.
تُستخدم هذه الطريقة بشكل شائع لتقييم توزيع الحيوانات البرية في المساحات المفتوحة الكبيرة، وقد أجريت سابقًا في المنطقة، في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وثمانينيات القرن الماضي، خلال أوقات السلم بين فترات الاضطرابات.
وقد أذهلت النتائج الأخيرة العلماء: ففيما تراجعت الحياة البرية في العديد من المناطق بالعالم جراء النمو البشري وتغير المناخ، تُظهر هذه البيانات أنّ الهجرة لم تنجُ فحسب من سنوات الحرب، بل توسّعت.
وقال مايك فاي، الباحث الرئيسي ومدير الحفاظ على المنتزهات الأفريقية في جنوب السودان: "إذا كانت الأعداد صحيحة بالنسبة لهذه الأنواع، فيبدو أنها زادت منذ عام 2007. وعما كانت عليه في ثمانينيات القرن الماضي حتى".
وحذّر من أن هامش الخطأ كبير، لكن حتى في أدنى تقدير له يبلغ أربعة ملايين ظبي، فإنّ هذا الرقم يساوي ضعف نحو مليوني حيوان من الحيوانات البرية التي تتحرك عبر منطقة سيرينجيتي في تنزانيا، في ما اعتُبر منذ فترة طويلة، أكبر هجرة للثدييات البرية بالعالم.
كما أنّ المسافات المغطاة تنافس أطول هجرة برية سنوية في العالم. وبينما تختلف المسارات بين الأنواع، فقد وجد المسح أن بعض التيانغ غطت أكثر من 3000 كيلومتر (1864 ميلاً)، ما يجعلها على قدم المساواة مع الوعل في القطب الشمالي بكندا.
يعترف فاي الذي يعمل في مشاريع الحفاظ على البيئة في أفريقيا منذ أكثر من 40 عامًا، بأن التعرّض للظواهر الطبيعية كان واسع النطاق. لقد رأى عددًا لا يحصى من الأفيال والأسود والغوريلا وغيرها من الحيوانات الشهيرة. وقال "من الصعب إقناعي، أليس كذلك؟".
ومع ذلك، عندما لاحظ آلاف الآلاف من الظباء تجري عابرة المساحات الطبيعية، شعر بالذهول أيضًا.
وتعجب بالقول: "كيف يمكن أن يكون هناك هذا العدد الكبير من الحيوانات البرية؟ إنه ليس أمرًا عاطفيًا بالنسبة لي، بل يتعلّق أكثر بالقدرة البيولوجية والبيئية لهذه الأرض على إنتاج الكثير من الحياة البرية. إنه لأمر استثنائي حقًا".
الحرب و السلام
وأشار فاي إلى أنه يرجّح أن يرتبط بقاء الهجرة ونموها بعقود من عدم الاستقرار في البلاد. فقد حصل جنوب السودان على استقلاله عن السودان في عام 2011، بعد عقود من الحرب الأهلية. وعقب الاستقلال بوقت قصير انزلقت البلاد إلى حربها الأهلية، التي انتهت في عام 2018، رغم استمرار العنف المحلي. ونتيجة لذلك، ظلت البصمة البشرية منخفضة، وصنّفت الأمم المتحدة جنوب السودان ضمن البلدان الأدنى نمواً في العالم.
ويتكهّن فاي أنّه "ربما أتاح ذلك هذه الفرصة لهذه الحيوانات المتروكة لحالها مدة تتراوح بين 10 و12 عامًا، فتكاثرت بأعداد كبيرة".
وتدعم هذه الفكرة بيانات من أجهزة تحديد المواقع التي تم تثبيتها على حوالي 125 ظبيًا، وتتبع تحركاتها خلال العام الماضي. فرغم أن العيّنة صغيرة جدًا بحيث لا يمكنها تقديم افتراضات كبيرة، إلا أنّ هناك أمرًا واحدًا واضحًا، بحسب فاي: "تحاول هذه الحيوانات تجنب البشر قدر استطاعتها". ويرى أنّ مساراتها تشكل نمطًا شبيهًا بكعكة الدونات، حيث تدور الظباء حول المستوطنات البشرية.
وفي المقابل، فإن الحيوانات غير المهاجرة التي لم تكن قادرة على تجنب التجمعات البشرية سجّلت أداءً سيئًا. .
وتشير الدراسة إلى تراجع كارثي في الأنواع المستقرة مثل الزرافة، والجاموس، والحمار الوحشي، والهارتبيست، والظباء المائية.
وشرح فاي: "كان هناك انتشار هائل للأسلحة في البلاد، وكان هناك آلاف من الناس يعيشون في الأدغال. لم يكونوا يزرعون، لذلك كانوا يأكلون الكثير من الحيوانات البرية ويطعمون الجنود منها".
وفي حين أن مجموعات الحياة البرية المتنقلة يمكن أن تتجه إلى المناطق النائية، فإن الأنواع المستقرة شكّلت أهدافًا سهلة".
غير أن عدم وجود نمو يعني أن النظام البيئي الطبيعي المحيط بالهجرة لا يزال سليما إلى حد ما. وخلص فاي إلى أن جنوب السودان غالباً ما يشار إليه على أنه "أرض الوفرة الكبيرة"، وهو يرقى إلى مستوى ذلك في كثير من النواحي.
رغم كونها دولة غير ساحلية، فإن جنوب السودان يتمتع بموارد هائلة من المياه العذبة، ففيه تقع على أكبر الأراضي الرطبة بأفريقيا، نهر السد، الذي يتغذى من فيضان النيل الأبيض. الاسم مشتق من الكلمة العربية التي تعني حاجز، ولقرون عدة كانت المنطقة تعتبر غير قابلة للاختراق، وكان السد يمثل الحد الجنوبي لتوسع الإمبراطورية الرومانية في أفريقيا. وقد ساعد هذا البعد على حماية التنوع البيولوجي بالمنطقة.
وقال فاي: "في معظم الأماكن على وجه الأرض، تم بناء السدود على طول السهول الفيضية النهرية الرئيسية، أو تم الإفراط باستخدامها وتدهورها. أما هنا، فالماء يخرج من الجبال، ويضرب ذلك السهول الفيضية الضخمة وينتشر.. وحقيقة أن ودود هذه السهول الفيضانية الهائلة التي لا تزال تعمل في هذا العالم الحديث لأمر استثنائي".
فرص الحياة
لقد ازدهرت الحياة البرية في "الأرض المحايدة" التي فرضها الصراع، لكن الآن بعدما عرفت البلاد فترة من الهدوء النسبي، تتزايد الجهود للتوسّع إليها. وشرح أنه يتمّ الآن "بناء الطرق، وبدأت الأنشطة الصناعية تنمو، وتتزايد حركة الناس، وتضعف الحدود القبلية".
وأوضح أنه "مع تآكلها، ومع توفر البنية التحتية لوسائل النقل، سنشهد تراجعًا هائلاً لهذه الحيوانات"، لأن الأنواع المهاجرة معرضة بشكل خاص للتطورات الخطية مثل الطرق، لأن الحاجز المادي يمكن أن يقطع طريق هجرتها، بينما يعرضها أيضًا للصيد.
لكنه يرى أن النمو لا يجب أن يكون ضارًا بالحياة البرية. إذا تم الاهتمام بهذه الهجرة، فإنها قد تجلب عددًا من الفوائد، بل يمكن أن تكون "محركًا للتنمية"،بحسب فاي، مستشهدًا بتنزانيا، حيث يجذب متنزه سيرينجيتي الوطني، موطن هجرة أعداد كبيرة من الحيوانات البرية، ما يصل إلى 200 ألف حيوان من الحيوانات البرية، السياح كل عام.
لكن فاي يحذر من أن الحفاظ على البيئة أمر صعب دائمًا، ويستغرق وقتًا. وخلص إلى أنه "إذا كنت تريد بناء اقتصاد حول هذه الهجرة، فإن الفارق الزمني بين التكلفة والفائدة كبير".
وخلص إلى أنه لا تزال السياحة الجماعية بعيدة المنال في بلد سمعته أنه أحد أخطر الدول في العالم، ويكافح مع اقتصاد هش وراكد، والصراع المستمر، والأزمة في السودان المجاور، قد تدفع الحياة البرية جراءها الثمن".